كلام خفيف إلى الشاعر  الطّاهر الهمامي  في ذكرى رحيله

كلام خفيف إلى الشاعر  الطّاهر الهمامي  في ذكرى رحيله

تاريخ النشر : 08:50 - 2020/05/02

لم يتخلّ الطّاهرالهمّامي عن أحلامه وحدوسه، ولم يقطع صلة خطابه الشّعريّ بالمعيش اليوميّ.

ولكنّه كان يحرص على أن يجعل بناء نصّه مدخلا إلى السّؤال والتّفكير في الممكن واقعا وإبداعا في آن معا. فهو يركّب ويهجّن باستمرار لأنّ التّهجين توقيع بالمختلف للحدّ من سلطة الواحد النّمطيّ المتكرّر. ففصحى المتنبّي يمكن أن تحتضن ’’الدّارجة التّونسيّة‘‘ وأن تصهرها في متخيّلها فتوقظ ذاكرتين، ذاكرة المتنبّي يعاني قلق الوجود وعنت اللّغة، وذاكرة الشّاعر يعاني انحسار الأحلام وتراجع كثيرين عن رغبتهم في تغيير الواقع واستسلامهم لسلطته القاهرة.

وبين الذّاكرتين يمتدّ خيط رفيع هو خيط الألم النّبيل.  ففي قصيدة بعنوان ’’ذات الهمّة‘‘(1993) نقرأ ما يلي: وإذا كانت النّفوس صــغارا        تعبت في  علاجــها الأفــــهام شاب قرني وما رأيت طحيـنا            كالذّي منـــــه هــذه الأيّــام عشـــرات من الدّماء تبــخـّرْ          نَ وصرحٌ من الأماني حطام تنزلق الدّارجة (طحين هو ما يُطحن من الحبوب أي هو الدّقيق، ولكنّ الطّحين في الدّارجة التّونسيّة هو الذلّ والهوان والصَّغَار) داخل فصحى أبي الطيّب، ولكنّ الضّمنيَّ غيرُ المصرّح به. فمعجم القيم غير معجم الأشياء، والطّحين-الدّقيق المأكول غير الأكل بـــــ’’الطّحين‘‘-الهوان والجبن والذلّ.

وها هنا نشير إلى أنّ علاقة الهمّامي باللّغة علاقة لعب يتنزّل فيها الهزليّ منزلة الدّال المشعّ على ما حوله من تموّجات دلاليّة يشتقّ فيها الشّاعرُ الهزليَّ من المفارقات القائمة بين الدّال والمدلول والسّياقات والمقاصد... إنّ الهوان والسّقوط والجبن وكلّ المعاني الهجائيّة-إذا جاز لنا أن نستعمل عبارة غرضيّة تقليديّة- يمكن أن تُختزل في تلك الكلمة التّي استدعاها الطّاهر من معجم اليوميّ المتداول.

ونعني ’’الطّحين‘‘ الذي تعدّدت صوره وأسبابه حتّى غدا قدرا أو كأنّه قدر العرب دون سواهم من الأمم.

ويقول في قصيدته ’’لحظة سقوط‘‘ من مجموعة ’’اسكني يا جراح‘‘ ( 2004) يا أمّة شبعت من جُــــبنها الأمــــمُ  يخيفها الحبر والقرطاس والقـــــلــــــُم... ابصم بخفّك لا تخجل فأنت لـهــا           تغــنى وتغنم من أخـــــفافها البَهــــــــمُ         كسّر يَرَاعَكَ لا تكتب علــــى ورق  وأكتب بساقك، تحيا السّاق والقـدم        نرى فلسطين تنأى عن نواظــــرنا          وحـــــولها ازدحم الــــــــعقبان والــــــّرخمُ        نرى العراق، نرى بـغدادنا رحـلت          وللـــــعـــلوج بـــها مـــغنى ومـــغــــــــــــتــــنم   نـــــــطقتُ مـتّهمٌ ســــــــكـتُّ مــتّهــــــــــمٌ          ضــــحكتُ متّـــهمٌ بكيتُ مــــتّهــــــــــمُ بين كتابات الطّاهر تفاوت في البناء لا يخطئه المتأمّل، وبينها كذلك عقود من الزّمن.

ولكن أليس ما تنبّأت به السّابقة هو ما تقوله اللاّحقة؟

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

لا يخفى على كلّ التونسييّن أنّ تونس مرّت بسنوات جفاف طويلة جعلت مربيي المواشي يعتمدون كلّيا على ا
07:00 - 2025/05/05
من خلال التمعن جيدا في الديبلوماسية العالمية يتبين أن الظوهر المتكررة في سياسات الأمم الأخرى تبيّ
07:00 - 2025/05/05
... أما إذا أخذنا أبرز المؤسسات الحركية للفكر الصوفي الروحي العالمي فسوف نفهم نفس الأمور.
07:00 - 2025/05/05
..قد لا أجانب الصّواب إذا قلت أنّ  اليهود لم يتعرّضوا بتاتا لأيّ إضطهاد من العرب ،بل كانوا جزءا م
07:00 - 2025/05/05
تبدأ المذبحة الابراهيمية، مذبحة الاعتراف الإبراهيمي بالعدو، المسماة تطبيعا، بأسطورة ما يسمى أبوة
17:52 - 2025/05/04
من خلال مبادراتي بصفة شخصية عندما عيّنت قنصلا عاما في الجزائر بتأليف ونشر كتاب تاريخي حول تاريخ ا
07:00 - 2025/05/03
ظاهرة التسوّل من الظواهر الاجتماعية التي تفشّت في السنوات الأخيرة بشكل كبير في مجتمعنا.
07:00 - 2025/05/01