مع الشروق : من واجب الدّولة استعادة دور التعليم الريادي وفرْملة الخاص
تاريخ النشر : 07:00 - 2025/09/19
لننطلق من إحصائية سنة واحدة فقط لنرى أن عدد المؤسسات التربوية الخاصة الجديدة بلغ 52 مؤسسة في 2024 مقارنة بالسنة السابقة لها. هذه المؤسسات التي تفرّخها تراخيص تُعطى بلا حساب تسحب البساط من تحت المؤسسات العمومية و تخلق تنافسية غير عادلة بينهما كمتسابقين في العَدْو أحدهما يتنفّس برئتين والآخر بقشّة.
ومهما يُقل عن قطاع خاص يدافع عنه المدافعون بحجة أنه لم يتضخّم ليبلغ سعة حجم خزّان التّعليم العمومي، فإنّ ذلك القول كغيمة يُراد لها بالقوّة إخفاء السّماء ، ذلك أنّ عدد التلاميذ ما بعد الثورة ارتفع بشكل صاروخي من 21 ألفا إلى 128 ألف تلميذ في مختلف المراحل التعليمية ،أكثر من نصفهم في التّعليم الأساسي. وما زالت الأرقام تقفز وتُجنّح بين سنة وأخرى ما لم يقع والتدارك.
هذا الاجتياح لم يتوقّف عند التّعليم الأساسي والإعدادي والثانوي والجامعي ، بل زحف اليوم نحو الطفولة المبكّرة ونزل إلى ما يُسمّى بالتمهيدي أو المرحلة التمهيدية السّابقة للتحضيري، أي إلى سن أربع سنوات ،وهي سن من المفروض أن تكون مؤطرة في رياض الأطفال ،إلا أنّ أصحاب المدارس الخاصة ابتدعوا التّدريس المشروط والمشطّ بحجز مقاعد مُسبقة للسّنة الأولى أساسيّا لكل من يتلقّى التّمهيدي والتّحضيري لديها، ليكون الأولياء في شبه التزام اضطراري بالخضوع لهذه الشّروط.
ثمّ إنّ هذه المؤسسات المموّلة بأموال الأولياء، الذين يدفعون ثمن كل شيء يستعمله الأبناء من أقلام الكتابة والأدوات المدرسية وأوراق الطباعة إلى الكرسي الذي يجلس عليه المعلم والأستاذ، تحوّلت الى سّوق وحوّلت الوليّ إلى موزّع آليّ يدفع بلا حساب تحت تأثير مغريات كثيرة مقابل جدية الدّروس ونجاعتها وضمان انتضامها واستمراريتها لدى البعض.
ومنذ دخلت وزارة التربية في معركة ساخنة مع النقابات ما بعد الثورة ، عرف التّعليم العمومي هزّات عنيفة ارتدّت عليه اليوم بضعف المردود والنتائج ، وهجرة الأولياء إلى التّعليم الخاص الذي أمّن الحدّ الأدنى من الانضباط والالتزام بتوفير الدّرس رغم أنّ أغلب المدرّسين في مؤسساته هم من مدرسي التّعليم العمومي.
ولمّا غرقت المدارس في الإضرابات وصراع النقابات وأسلوب ليّ الذراع واتّخاذ التلاميذ رهينة وحجز النّتائج والدّفاتر وغيرها من أساليب الضغط والابتزاز ،فتح القطاع الخاص أبوابه بشراهة للغثّ و السّمين وأخذ في التوسّع لتحافظ بعض المؤسسات على مستوى محترم من الأمانة التّعليمية و تنخرط الأغلبية في تعبئة العرجاء والنطيحة وما أكل السبع في غياب الرّقيب والحسيب.
غير أنّ المُحيّر ليس في تحويل وجهة الأولياء وإدارة الرّقاب إلى هذا القطاع المُسْتكرش في أغلبه ،بل في ضمور المؤسسات العمومية وتراجعها وتخبّطها في مشاكل عميقة وعد بحلّها خبراء الإصلاح التربوي دون أن ترتقي الوعود إلى مرحلة التنفيذ الاستعجالي . إذ منذ ثماني سنوات وكل وزير وافد على التربية يعد بوضع الملف على طاولة الدّرس لضرورة باتت أكيدة لتتبخّر الوعود بنفس الأسلوب المكرور في غياب جدية الفعل.
إن الفردانية التي يعيشها التّونسي اليوم باتت تفرض أسلوب الخلاص الفردي في العيش، فكل أسرة تدبّر أمرها بنفسها ، وبما يتاح لها من إمكانيات، وتبحث عن حلول ناجعة لأبنائها لضمان مستقبلهم الدّراسي وإتاحة فرص وفيرة للنّجاح،وهو ما لا يتوفر لدى العائلات الضعيفة ومتوسطة الدّخل غير القادرة على إتاحة نفس فرص النّجاح لأبنائها بنفس تكافؤ الفرص فتعلّق آمالها على تعليم عمومي يعرج وغير قادر إلى اليوم رغم كفاءة إطاره التربوي على أن يصلب ظهره ويقف في وجه العاصفة.
بمثل هذه الحلول الفردية ، لم يعد التّعليم مسألة وطنية مجتمعية ، بل هو حلّ فردي للمقتدر ماديا ، ولغير القادرين ممن يلوذون بالقروض البنكية وأكثر من حلّ لتدبير الرّأس مقابل ضمان مستقبل الأبناء الذي كان يضمنه وعن جدارة التعليم العمومي وبلا منازع.
ولمّا انتهى القطاع إلى ما هو عليه من وهن واستغلال وتمعّش واستكراش واستغلال للفرص، من واجب الدّولة أن تتدخّل بقوّة لتوقف أدفاق التراخيص الممنوحة و تتصدّى لدكاكين التّعليم المكتسحة للقرى والأحياء ولم تعد حكرا على المدن الكبرى. ولأنّ التعليم سلاح الدّولة لهزم الأمّية والإرهاب والجريمة عليها أن تُعيده إلى موقعه الرّيادي وتُفرمل مكابح القطاع الخاص المنطلق كفرس جامح و قد تحوّل إلى قطاع استثماري بامتياز ركب على أزمة التّعليم العمومي واستغلّها بحجّة تقديم الأفضل ، والحال أنّ هذا التعليم بانتكاسته وكبواته يبقى قلعة النضال الصامدة ضدّ الجّهل والتطرّف وبناء المواطن.
وحيدة المي
لننطلق من إحصائية سنة واحدة فقط لنرى أن عدد المؤسسات التربوية الخاصة الجديدة بلغ 52 مؤسسة في 2024 مقارنة بالسنة السابقة لها. هذه المؤسسات التي تفرّخها تراخيص تُعطى بلا حساب تسحب البساط من تحت المؤسسات العمومية و تخلق تنافسية غير عادلة بينهما كمتسابقين في العَدْو أحدهما يتنفّس برئتين والآخر بقشّة.
ومهما يُقل عن قطاع خاص يدافع عنه المدافعون بحجة أنه لم يتضخّم ليبلغ سعة حجم خزّان التّعليم العمومي، فإنّ ذلك القول كغيمة يُراد لها بالقوّة إخفاء السّماء ، ذلك أنّ عدد التلاميذ ما بعد الثورة ارتفع بشكل صاروخي من 21 ألفا إلى 128 ألف تلميذ في مختلف المراحل التعليمية ،أكثر من نصفهم في التّعليم الأساسي. وما زالت الأرقام تقفز وتُجنّح بين سنة وأخرى ما لم يقع والتدارك.
هذا الاجتياح لم يتوقّف عند التّعليم الأساسي والإعدادي والثانوي والجامعي ، بل زحف اليوم نحو الطفولة المبكّرة ونزل إلى ما يُسمّى بالتمهيدي أو المرحلة التمهيدية السّابقة للتحضيري، أي إلى سن أربع سنوات ،وهي سن من المفروض أن تكون مؤطرة في رياض الأطفال ،إلا أنّ أصحاب المدارس الخاصة ابتدعوا التّدريس المشروط والمشطّ بحجز مقاعد مُسبقة للسّنة الأولى أساسيّا لكل من يتلقّى التّمهيدي والتّحضيري لديها، ليكون الأولياء في شبه التزام اضطراري بالخضوع لهذه الشّروط.
ثمّ إنّ هذه المؤسسات المموّلة بأموال الأولياء، الذين يدفعون ثمن كل شيء يستعمله الأبناء من أقلام الكتابة والأدوات المدرسية وأوراق الطباعة إلى الكرسي الذي يجلس عليه المعلم والأستاذ، تحوّلت الى سّوق وحوّلت الوليّ إلى موزّع آليّ يدفع بلا حساب تحت تأثير مغريات كثيرة مقابل جدية الدّروس ونجاعتها وضمان انتضامها واستمراريتها لدى البعض.
ومنذ دخلت وزارة التربية في معركة ساخنة مع النقابات ما بعد الثورة ، عرف التّعليم العمومي هزّات عنيفة ارتدّت عليه اليوم بضعف المردود والنتائج ، وهجرة الأولياء إلى التّعليم الخاص الذي أمّن الحدّ الأدنى من الانضباط والالتزام بتوفير الدّرس رغم أنّ أغلب المدرّسين في مؤسساته هم من مدرسي التّعليم العمومي.
ولمّا غرقت المدارس في الإضرابات وصراع النقابات وأسلوب ليّ الذراع واتّخاذ التلاميذ رهينة وحجز النّتائج والدّفاتر وغيرها من أساليب الضغط والابتزاز ،فتح القطاع الخاص أبوابه بشراهة للغثّ و السّمين وأخذ في التوسّع لتحافظ بعض المؤسسات على مستوى محترم من الأمانة التّعليمية و تنخرط الأغلبية في تعبئة العرجاء والنطيحة وما أكل السبع في غياب الرّقيب والحسيب.
غير أنّ المُحيّر ليس في تحويل وجهة الأولياء وإدارة الرّقاب إلى هذا القطاع المُسْتكرش في أغلبه ،بل في ضمور المؤسسات العمومية وتراجعها وتخبّطها في مشاكل عميقة وعد بحلّها خبراء الإصلاح التربوي دون أن ترتقي الوعود إلى مرحلة التنفيذ الاستعجالي . إذ منذ ثماني سنوات وكل وزير وافد على التربية يعد بوضع الملف على طاولة الدّرس لضرورة باتت أكيدة لتتبخّر الوعود بنفس الأسلوب المكرور في غياب جدية الفعل.
إن الفردانية التي يعيشها التّونسي اليوم باتت تفرض أسلوب الخلاص الفردي في العيش، فكل أسرة تدبّر أمرها بنفسها ، وبما يتاح لها من إمكانيات، وتبحث عن حلول ناجعة لأبنائها لضمان مستقبلهم الدّراسي وإتاحة فرص وفيرة للنّجاح،وهو ما لا يتوفر لدى العائلات الضعيفة ومتوسطة الدّخل غير القادرة على إتاحة نفس فرص النّجاح لأبنائها بنفس تكافؤ الفرص فتعلّق آمالها على تعليم عمومي يعرج وغير قادر إلى اليوم رغم كفاءة إطاره التربوي على أن يصلب ظهره ويقف في وجه العاصفة.
بمثل هذه الحلول الفردية ، لم يعد التّعليم مسألة وطنية مجتمعية ، بل هو حلّ فردي للمقتدر ماديا ، ولغير القادرين ممن يلوذون بالقروض البنكية وأكثر من حلّ لتدبير الرّأس مقابل ضمان مستقبل الأبناء الذي كان يضمنه وعن جدارة التعليم العمومي وبلا منازع.
ولمّا انتهى القطاع إلى ما هو عليه من وهن واستغلال وتمعّش واستكراش واستغلال للفرص، من واجب الدّولة أن تتدخّل بقوّة لتوقف أدفاق التراخيص الممنوحة و تتصدّى لدكاكين التّعليم المكتسحة للقرى والأحياء ولم تعد حكرا على المدن الكبرى. ولأنّ التعليم سلاح الدّولة لهزم الأمّية والإرهاب والجريمة عليها أن تُعيده إلى موقعه الرّيادي وتُفرمل مكابح القطاع الخاص المنطلق كفرس جامح و قد تحوّل إلى قطاع استثماري بامتياز ركب على أزمة التّعليم العمومي واستغلّها بحجّة تقديم الأفضل ، والحال أنّ هذا التعليم بانتكاسته وكبواته يبقى قلعة النضال الصامدة ضدّ الجّهل والتطرّف وبناء المواطن.
وحيدة المي
