مع الشروق : من جلاء الأرض إلى جلاء العقول...هل تحرّرنا من الجهل؟
تاريخ النشر : 07:00 - 2025/10/18
احتفلت بلادنا هذا الأسبوع بالذكرى الثانية والستين لعيد الجلاء، وهي محطة هامّة في الذاكرة الوطنية تعيدنا سنويّا إلى الحديث عن الجلاء والتحرّر التام بمفهوميه السياسي والعسكري، والخروج من تحت سطوة الاستعمار الفرنسيّ.
لكنّ المناسبة ذاتها تضعنا أمام التساؤل عن جوهر مفهوم التحرّر المجتمعي الحقيقي بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال التام. فقد واجهت تونس في بداياتها تركة ثقيلة من الفقر والجهل والأمراض، وكان المجتمع في منتصف الخمسينات في حاجةٍ استعجالية إلى البناء بالتوازي مع بناء الدولة الوطنية.
لم يكن من السهل على مجتمعٍ مستعمَرٍ حُرم أفراده من العدالة الاجتماعية ومن الحق في التعليم والعيش الكريم ـ باستثناء أبناء الأعيان والفئات الموالية ـ أن يجد طريقه إلى الرّفاه وبناء الذات المستقلّة والاستمتاع بالتحرّر الفعلي، مع مستعمِرٍ منح أولويات البناء لأبنائه.
انطلقت الحرب على الجهل في ظلّ نسبةٍ مرتفعة جدّا من الأمّية تجاوزت في ذلك الزمن 85 ٪، وكان التعليمُ الرهانَ الأفضل للتصدّي للجهل والفقر الفكري والدجل والشعوذة والرجعية. أُعطيت الأولويّة لصناعة الوعي وإحكام نسيجٍ مجتمعيٍّ متحضّر قادر على التأقلم مع رهانات الدولة المدنيّة.
وقد انخرط الإعلام العمومي في هذه الحرب، وتجنّد للتوعية والتحسيس والتثقيف والتأطير، وسعى إلى إخراج التونسي من أنفاق الانغلاق، وذلك عبر الدراما التلفزية والسكاتشات الإذاعية والمسرحيات وحتّى الأغاني التي كانت تُنتقى كلماتها لتهذيب السلوك والحثّ على القيم والمبادئ وتكريس ثقافة العمل وتوطيد صلة المواطن بوطنه وبالآخر.
وكانت رحلة الإقلاع في اتجاه التحرّر من الأمّية ناجحةً نسبيّا، إذ بلغت نسبًا معقولة برهنت على القدرة على التحكّم في أزمة المعرفة بالبلاد وحُسن إدارتها.
وسارت تونس على النهج نفسه، تولي أهمّية للوعي والعلم والمعرفة، فأصبحت شهائدها الجامعية معترفًا بها في أنحاء العالم، وكفاءاتها تتبوّأ مواقع قرار مشرّفة.
غير أنّ الحال لم يعد على ما كان عليه، منذ باتت المؤسّسات التربوية تُنتج الفشل والانقطاع المدرسي بعشرات الآلاف سنويّا، وحاد الإعلام عن أدواره النبيلة، وساهمت الدراما في صعود نماذج وقدوات تمنح الأفضلية لنجوميّة الثراء المادّي والسطحي على حساب الثراء الفكري.
وبدل مواصلة تضييق الفجوة المعرفيّة المتبقيّة في المجتمع التونسي، تمّ توسيعها من جديد منذ تغيير المناهج التعليمية والتخلّي عن إجبارية الامتحانات الوطنية التقييمية في السنتين السادسة والتاسعة أساسيا، وعدم القدرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المنقطعين عن الدراسة في سنّ مبكّرة عبر بدائل تثمّن مهارات هذا الرصيد البشريّ المهدور، دون أن ننسى ارتفاع عدد العاطلين من حاملي الشهائد العليا وانتشار ثقافة الثراء بأقلّ جهد.
بمثل هذا التراكم، تُعدّ تونس اليوم ـ وفق التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 ـ مليونًا و776 ألف أميّ فوق سنّ العاشرة، وتمثّل نسبة الأمّية، وإن تراجعت عن السنوات السابقة، 17.3 ٪، وهي نسبة مرتفعة لدولةٍ راهنت على التعليم منذ استقلالها ووضعته في سلّم أولويّاتها.
وبالاطّلاع على الخصائص التعليمية للسكان حسب التعداد المذكور، نجد إلى جانب 17.4 ٪ بدون مستوى تعليمي، نحو 28.6 ٪ من التونسيين ذوي مستوى تعليم ابتدائي، أي إنّ قدراتهم المعرفيّة محدودة ومهاراتهم القرائية لا تتطوّر لابتعادهم نهائيّا عن الكتاب والقلم بمجرد مغادرة المدرسة.
بالتالي، يلتحق هؤلاء عمليّا بقائمة الأميين لترتقي النسبة إلى نحو 46 ٪، مقابل 16.1 ٪ فقط أحرزوا مستوى تعليمٍ عالٍ. وهو ما يمثّل خزانًا بشريًا غير منتجٍ للمعرفة، ولا قابلًا للتحضّر، ولا يمكن التعويل عليه في التأقلم مع مجتمعٍ منتج ومتطوّر يفرض اكتساب المهارات الحياتية التي يفرضها التطوّر التكنولوجي بقوّة — ولا عزاء للعاجزين.
وبمثل هذه الأرقام المفزعة، ونحن على وقع احتفالنا بذكرى الجلاء، يحقّ لنا أن نقف وقفة تأمّل أمام مدى تحرّر المجتمع فعليّا من مكبّلات الجهل والفقر الفكري، وضرورة العمل على إعادة بناء الوعي والمواطن والمجتمع بناءً سليمًا يليق بستّين سنة تحرّرا وسبعين سنة استقلالا.
وحيدة المي
احتفلت بلادنا هذا الأسبوع بالذكرى الثانية والستين لعيد الجلاء، وهي محطة هامّة في الذاكرة الوطنية تعيدنا سنويّا إلى الحديث عن الجلاء والتحرّر التام بمفهوميه السياسي والعسكري، والخروج من تحت سطوة الاستعمار الفرنسيّ.
لكنّ المناسبة ذاتها تضعنا أمام التساؤل عن جوهر مفهوم التحرّر المجتمعي الحقيقي بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال التام. فقد واجهت تونس في بداياتها تركة ثقيلة من الفقر والجهل والأمراض، وكان المجتمع في منتصف الخمسينات في حاجةٍ استعجالية إلى البناء بالتوازي مع بناء الدولة الوطنية.
لم يكن من السهل على مجتمعٍ مستعمَرٍ حُرم أفراده من العدالة الاجتماعية ومن الحق في التعليم والعيش الكريم ـ باستثناء أبناء الأعيان والفئات الموالية ـ أن يجد طريقه إلى الرّفاه وبناء الذات المستقلّة والاستمتاع بالتحرّر الفعلي، مع مستعمِرٍ منح أولويات البناء لأبنائه.
انطلقت الحرب على الجهل في ظلّ نسبةٍ مرتفعة جدّا من الأمّية تجاوزت في ذلك الزمن 85 ٪، وكان التعليمُ الرهانَ الأفضل للتصدّي للجهل والفقر الفكري والدجل والشعوذة والرجعية. أُعطيت الأولويّة لصناعة الوعي وإحكام نسيجٍ مجتمعيٍّ متحضّر قادر على التأقلم مع رهانات الدولة المدنيّة.
وقد انخرط الإعلام العمومي في هذه الحرب، وتجنّد للتوعية والتحسيس والتثقيف والتأطير، وسعى إلى إخراج التونسي من أنفاق الانغلاق، وذلك عبر الدراما التلفزية والسكاتشات الإذاعية والمسرحيات وحتّى الأغاني التي كانت تُنتقى كلماتها لتهذيب السلوك والحثّ على القيم والمبادئ وتكريس ثقافة العمل وتوطيد صلة المواطن بوطنه وبالآخر.
وكانت رحلة الإقلاع في اتجاه التحرّر من الأمّية ناجحةً نسبيّا، إذ بلغت نسبًا معقولة برهنت على القدرة على التحكّم في أزمة المعرفة بالبلاد وحُسن إدارتها.
وسارت تونس على النهج نفسه، تولي أهمّية للوعي والعلم والمعرفة، فأصبحت شهائدها الجامعية معترفًا بها في أنحاء العالم، وكفاءاتها تتبوّأ مواقع قرار مشرّفة.
غير أنّ الحال لم يعد على ما كان عليه، منذ باتت المؤسّسات التربوية تُنتج الفشل والانقطاع المدرسي بعشرات الآلاف سنويّا، وحاد الإعلام عن أدواره النبيلة، وساهمت الدراما في صعود نماذج وقدوات تمنح الأفضلية لنجوميّة الثراء المادّي والسطحي على حساب الثراء الفكري.
وبدل مواصلة تضييق الفجوة المعرفيّة المتبقيّة في المجتمع التونسي، تمّ توسيعها من جديد منذ تغيير المناهج التعليمية والتخلّي عن إجبارية الامتحانات الوطنية التقييمية في السنتين السادسة والتاسعة أساسيا، وعدم القدرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المنقطعين عن الدراسة في سنّ مبكّرة عبر بدائل تثمّن مهارات هذا الرصيد البشريّ المهدور، دون أن ننسى ارتفاع عدد العاطلين من حاملي الشهائد العليا وانتشار ثقافة الثراء بأقلّ جهد.
بمثل هذا التراكم، تُعدّ تونس اليوم ـ وفق التعداد العام للسكان والسكنى لسنة 2024 ـ مليونًا و776 ألف أميّ فوق سنّ العاشرة، وتمثّل نسبة الأمّية، وإن تراجعت عن السنوات السابقة، 17.3 ٪، وهي نسبة مرتفعة لدولةٍ راهنت على التعليم منذ استقلالها ووضعته في سلّم أولويّاتها.
وبالاطّلاع على الخصائص التعليمية للسكان حسب التعداد المذكور، نجد إلى جانب 17.4 ٪ بدون مستوى تعليمي، نحو 28.6 ٪ من التونسيين ذوي مستوى تعليم ابتدائي، أي إنّ قدراتهم المعرفيّة محدودة ومهاراتهم القرائية لا تتطوّر لابتعادهم نهائيّا عن الكتاب والقلم بمجرد مغادرة المدرسة.
بالتالي، يلتحق هؤلاء عمليّا بقائمة الأميين لترتقي النسبة إلى نحو 46 ٪، مقابل 16.1 ٪ فقط أحرزوا مستوى تعليمٍ عالٍ. وهو ما يمثّل خزانًا بشريًا غير منتجٍ للمعرفة، ولا قابلًا للتحضّر، ولا يمكن التعويل عليه في التأقلم مع مجتمعٍ منتج ومتطوّر يفرض اكتساب المهارات الحياتية التي يفرضها التطوّر التكنولوجي بقوّة — ولا عزاء للعاجزين.
وبمثل هذه الأرقام المفزعة، ونحن على وقع احتفالنا بذكرى الجلاء، يحقّ لنا أن نقف وقفة تأمّل أمام مدى تحرّر المجتمع فعليّا من مكبّلات الجهل والفقر الفكري، وضرورة العمل على إعادة بناء الوعي والمواطن والمجتمع بناءً سليمًا يليق بستّين سنة تحرّرا وسبعين سنة استقلالا.
وحيدة المي
