مع الشروق : كفاءات الإدارة ودورها في الإصلاح والتطوير..

مع الشروق : كفاءات الإدارة ودورها في الإصلاح والتطوير..

تاريخ النشر : 00:00 - 2025/01/24

منذ الاستقلال ظهرت تونس دولة متميّزة بمنظومة تعليمية قوية مكّنت من "إنتاج" ثروة بشرية ذات كفاءة عالية في مختلف المجالات. وعلى مرّ السّنين ظلت الدولة تُنفق – رغم النقائص والصعوبات – على المنظومة التعليمية وتدعمها من الابتدائي الى الجامعة وعلى منظومة التكوين والتدريب المهني وعلى التربصات المهنية في الداخل وفي الخارج وتخصّص لكل ذلك تمويلات من أموال دافعي الضرائب. وهو دور اختارت الدولة القيام به وفق فلسفة عامة تقول إن "الاستثمار في الثروة البشرية" شأنه شأن الاستثمار في مختلف الثروات الأخرى المتاحة، سيعود بالفائدة على البلاد في ما بعد.
وعلى مرّ السنين مثلت هذه الكفاءات ركيزة أساسية للدولة بمختلف مكوناتها في القطاعين العام والخاص سواء داخل هياكل الإدارة أو في المؤسسات العمومية والخاصة أوفي قطاع المهن الحرة وضمن مختلف مكونات المجتمع.. وهوما مكّن  الدولة على امتداد أكثر من 60 عاما من تحقيق بناء اقتصادي واجتماعي مُحترم مازالت البلاد تجني ثماره الى اليوم، فتحقّقت بذلك أهداف تلك الفلسفة – فلسفة الاستثمار في الثروة البشرية" - وتحقق "العائد" من ذلك الاستثمار le retour sur investissement  في عدة قطاعات ومجالات ولو بنسب مختلفة من خلال ما أنتجته تلك الكفاءات من قيمة مضافة لمصالح البلاد.
في السنوات الأخيرة، ورغم تواصل قيام الثقة في كفاءاتنا ومهاراتنا البشرية، بدليل تواصل قيام الدولة وتواصل السير الطبيعي لمختلف دواليبه، والذي لم يتعطل حتى في أصعب وأخطر الفترات التي مرت بها البلاد منذ 2011 الى اليوم، إلا أن ذلك لا يحجب ما اصبح يسود تلك الثقة من اهتزاز. فما يحصل بين الحين والآخر من تقلبات وأزمات مختلفة اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا يدفع الى التساؤل إن كانت كفاءاتنا البشرية مازالت تعمل بالوتيرة نفسها التي مكنت بعد الاستقلال والى حدود السنوات الأخيرة من بناء الدولة وتأمين مصالحها ومصالح شعبها ومكنت من خلق الثروة وتحقيق التميز.
وقد اتضح منذ سنوات، وتحديدا منذ 2011، أن بلادنا كانت في حاجة الى إصلاحات عميقة وجذرية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وفي المجال التنموي وفي مجال المرافق العمومية. حيث كان المنوال الاقتصادي والتنموي في حاجة الى "ثورة" تُخرجه من نمطه التقليدي وتدفع به نحو التطور والرقمنة والتكنولوجيات الحديثة اقتداء بعديد الدول الشبيهة ببلادنا. وكانت خدمات المرفق العام في مجالات التعليم والصحة والنقل العمومي والإدارة والتشريعات والبيروقراطية والبنية التحتية والبيئة وغيرها تتطلب التعجيل باصلاحها وتطويرها من أجل حمايتها من الانهيار والتراجع..
هذا الواقع يدفع اليوم الى التساؤل عن الدور الذي من المفروض ان تلعبه اليوم  كفاءات أنفقت الدولة الكثير من أجل تكوينها وتأهيلها وهي تعمل اليوم  في مختلف دواليب الدولة وحاضرة في جُلّ مكاتب الإدارة وأيضا في مؤسسات القطاع الخاص. فهذه الكفاءات، من مهندسين وتقنيين وفنيين وإطارات إدارية عليا ورجال قانون وخبراء وموظفين – وبعضهم مشهود بكفاءته ومهارته في الخارج- تبدو اليوم شبه غائبة عن المساهمة في استنباط حلول الإصلاح والإنقاذ وفي اقتراح الحلول الناجعة اقتصاديا وماليا من اجل مزيد التطوير. حيث أصبحت تبدو كأنها تزاول يوميا عملها فقط من اجل تأمين السير العادي للدولة بالطرق الروتينية اليومية دون تفكير في حلول التطوير والإصلاح.
لم يعد الوضع ينتظر تواصل اقتصار كفاءاتنا على مجرد العمل الروتيني اليومي القائم على التسيير التقليدي والعادي، بل بات يتطلب ثورة تنبع من معارفها ومهاراتها التي راكمتها على مرّ السنين، وتقدم حلول الإصلاح وتستنبط بدائل التطوير. فمن غير المعقول ان تظل بعض المرافق العمومية في وضع متدهور وكأنه لا توجد داخل هياكل الدولة مهارات وكفاءات قادرة على تقديم حلول الانقاذ والاصلاح والتطوير. ومن غير المقبول ان لا تهتدي كفاءاتنا الإدارية الى حلول التطوير الاقتصادي في حين تمكنت عديد الدول من تحقيقه بفضل كفاءاتها التي لا تفوقها  في شيء. إن مواصلة الدولة الإنفاق على ثروتها البشرية والاستثمار فيها يجب ان يعود بالنفع على البلاد حتى لا يصبح في يوم من الايام استثمارا خاسرا بلا جدوى..
فاضل الطياشي

تعليقات الفيسبوك