مجموعة "لا قيمة للأسماء" لنصر الدّين الخليفي3\3: سؤال الكتابة في نص نصرالدين الخليفي

مجموعة "لا قيمة للأسماء" لنصر الدّين الخليفي3\3: سؤال الكتابة في نص نصرالدين الخليفي

تاريخ النشر : 17:47 - 2021/05/16

وضّح الكاتب يوسف عبد العاطي في الجزء الثاني من هذه الدراسة ما لمسه من تشبّث الرّاحل نصر الدين الخليفي بمفهوم الحرية في الكتابة. وقال انه  تقريبًا العنصر الأساسي في بناء إبداع فاعل وقادر على تغيير العقول  في المجتمع. كما اكد أنّ الانزياح الّذي مال إليه الكاتب قابل لتأويلات مختلفة . ونواصل ليوم نشر الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة : 

   في القصّة الأخيرة من مجموعة " لاقيمة للأسماء" وعنوانها  (ما أحلى ليالي إشبيلية و غرناطة أيضًا)  انطلق السّرد :
  ( حططنا الرّحال ليلًا بإشبيلية. كنّا منهكين لكنّ ثلّة منّا لم تكن لتركن إلى الرّاحة، و كيف لنا بها      و نغمات الأغنية التّونسيّة « ما أحلى ليالي إشبيلية » تحملنا على بساط من أثير … كيف لنا بالرّاحة    و ليست لنا إلّا ليلة واحدة نقضّيها بعاصمة إقليم الأندلس فكيف ننتظرطلوع  النّهار؟…) ( ص:138)
        فأمام كلّ هذا الحنين للماضي المجيد لحياة العرب في الأندلس و بنبرة تفاؤل  في انتظار طلوع النّهار، نُتابع أحداث القصّة بكلّ حسرةعلى ما فات لينتهي  بنا السّرد:
      ( و أنا أغادر تلك القصور «الّتي أعيد ترميمها حتّى عادت تحاكي بناءها الأوّل» لم يشدّ انتباهي غير باب لونه بنّيّ مقوّس كبير قالت عنه الدّليلة السّياحيّة معلّقة: - من هنا خرج أبو عبد الله و ظلّ الباب مقفلًا من ورائه إلى اليوم.) ( ص: 141)
      و يلاحظ معي القارئ أنّ الكاتب تمكّن من اختزال مفهوم الحنين إلى المجد دون مدح مجاني لتلك الفترة أو بكاء عمّا وقع التّفريط فيه، بلإنّه لامس الحنين الّذي  يسكننا بإحساس مرهف متطلّع إلى فتح الباب المُغلق من جديد. 
و حتّى يستدلّ القارئ بالمزيد من آراء القصّاص حول مفهوم الكتابة أردت التّوقّف عند ما جاء في قصّة «الزّميل الرّابع» و الّتي جاء فيهاالتّعريف بمفهوم الكتابة  القصصية، حيث يقول على لسان إحدى الشّخصيات :(… و القصّة إذن ليست  حظّا زاهيا أو عاثرا يقع بي و أقعبه، إنّما هي فصل ألم و أمل من أغنية البدايات  و… نحت في ماء الكلمات! فكيف لي أن ألتصق-و هذا حظّي- بالطّين و أثقل قدميّ بقيودالأحجار؟!) ( ص : 75). 
       و أرى أنّ مثل هذه الأحكام حول مفهوم الكتابة، حتّى و إن جاءت على لسان  إحدى الشّخصيات الحدثيّة في السّرد القصصي، فإنّها تُعبّر بطريقة أو بأخرى عن إحدى مفاهيم القصّ لدى الكاتب، و الّتي لا يحقّ لنا  أبدًا مناقشتها، لكننّي أرى أنّه من واجبنا البحث عن مدىتطابقها مع ما نُشر  من قصص،و يبقى ذلك من مشمولات القارئ دون غيره. 
    و بالمناسبة أريد التّعبير عن عجزي في تفسير سبب إعادة نشر نصّي «الملتحي ذو الشّارب الكثيف»و «المغترب» في الصّفحة(25/ 26) ثمّ لاحقًا في الصّفحة (95/ 96) فأمّا إن كان قد حصل الأمر سهوًا فهذا معقول، أمّا إذا كان مقصودا  و مدروسًا فإنّني أعبّر عن عدم إدراكي للمقاصد. 
      و أشعر أنّه لا يُمكننا أبدًا تلمّس قيمة هذا المنشور «لا قيمة للأسماء» دون  الوقوف عند بعض الاختيارات ممّا كتبته الشّاعرة نزيهة الجديّد تحت عنوان(بعض من لوعة) و هي الأرملة و الأم المكلومة. فنجدها تقول: 
       ( أمل متعبة يا نصر الدّين… 
          كنتَ لها الأب و الصّديق… 
         كنتَ صندوق أشيائها الصّغيرة… 
         كنتَ لها الرّبيع الدّائم …
         كم كنتَ الرّفيق و لبّ البياض!
         كم كنتَ اخضرار الرّياض في بيتنا… 
          وازدهار الأماسي… 
         كم كنتَ زقزقة الطّير 
         و حوم الفَراش! ) ( ص : 145) 
       ثمّ نجدها تعترف بألم كبير فتقول:( … كنتُ أرى الدّنيا بعينيك… كنت أراها في حنانك و في أحلامك و في إصرارك على الحياة… فكيف صرت أراها! لا شيء، ناقصة صادمة صاعقة و باردة… صرتُ لا أحلام لي، سفينة فارغة يتقاذفها الموج و الزّبد و الرّياح الهائجة.) ( ص :149)
     لتنهي لوحتها السّابعة بقصيدة اخترت نقل مقطعها الأخير حيث تقول: 
      ( أرقب أوجاعي و أحتمي بظلالها 
         بعدكما قصف الوقت أحلامي
         فلا مخالب لي و لا أجنحة 
         و لا ذيل يشي بأفراح قطّة 
          بين نطّة 
          و نطّة.) ( ص : 151)
     و سعيًا منّي لإعطاء صورة أوضح للقارئ عن ملامح الكتابة الأدبية لدى نصر  الدّين الخليفي سأحاول اختيار بعض النّصوص الّتي أدرجها المحقّق ضمن «عناوين جامعة» علّني أتمكّن من خلال ذلك التّحفيز  على مطالعة المدوّنة السّردية الكاملة لهذا المبدع الرّاحل. مع الإشارة إلى ميلي لاعتبار أغلب النّصوص المدرجة في هذا القسم كمشاريع  قصص لم تُنجز كما اشتهى صاحبها الرّاحل كتابتها، رغم توفّرأغلبها على البناء  الفنّي و الهيكلي للقصّة القصيرة. و بحكم اطّلاعي على أعماله القصصيّة  المنشورة خاصّة شعرت أنّ الرّاحل كان يُخطّط ربّما لإعادة صياغة هذه النّصوص المكثّفة غير أنّ الموت عجّل برحيله.    و الأكيد أنّ هذا الاحتمال يدخل في باب الحدس لا غير.
     و لتقديم تأكيدات عمّا ذهبت إليه سأقدّم للقارئ البعض من هذه النّماذج.  من ذلك مثلًا نصّ «الملتحي ذو الشّارب الكثيف» و الّذي نُشرفي صفحتين  مختلفتين كما ذكرت سابقًا (ص:25و95) حيث جاء في جملتين فقط( نسي ما لأبي من فضل على مستضعفي هذا البلد الأمين. لو لا أبي لكان هذا البلد هباء لا حرف ضاد فيه و لا نون.) (ص : 25)
       فرغم كلّ الإيحاءات الّتي يُوفّرها هذا النّصّ المُكثّف لعمق معانيه، إلّا أنّني أشعر بأنّ الرّاحل كان سيُضفي عليه الكثير من المحسّنات الفنّيّة و البلاغية لو امتدّ به العمر. و مثل هذه الحوافز لا يُمكننا أبدًا مطالبة المحقّق بها حتّى لا يُساهم في خيانة الأمانة.
       و المثال الثّاني الّذي رُمْت التّوقّف عنده هو نصّ «بُرْنس» و الّذي كان كما يلي: 
     (أهدتني برنسا… و أهدتني عرسا. ظننت البرنسَ يدفئني و العرسَ يطربني، فلمّا احتجتهما في أيّامي الشّتويّة، مددت يدي إلى ذراع ألفيتها باردة… فاتّجهت إلى الدّولاب … وجدت برنسي قد أكله السّوس بعدُ،  و اخترقته ثقوب كثيرة.) (ص: 33)
      و يلاحظ معي القارئ أنّ تكثيف المعاني و اختزال العبارات دون توسّع  في الوصف و الحكي، يحتاج إلى رؤية عميقة و دقيقة للأحداث وهو ما نلمسه في هذه النّصوص المُحمّلة بمقاصد ثاقبة. و لذلك يشعر المُطّلع عليها أنّه امتلك ناصية القصّة الهادفة. 
      و لأنّنا نتحدّث عن أعمال نصر الدّين الخليفي بعد أن غادر جسده هذه الدّنيا أرى أنّه من المفيد التّوقّف عند نصّ «لم أعد أسمّي» والّذي شعرت أنّه كان يؤبّن نفسه فيه:
      (أبدًا. لم أكن أطلب من الوزارة وزرا، و من المدى بعدا، و من الجبل عتيّا،  طلبت فقط من البلدية اسما فابتُلِع … سمّيتُ نفسي إذن ملِكاعلى الخلاء و على  البراري … صحتُ به في الأودية و الجبال  و الصّحاري… 
       و في داري لمّا متّ نُعيتُ به!
       يا فرحةَ اسمي إذ تندبني داري.) (ص: 42)
   و لأنّ الأمثلة متعدّدة و متنوّعة أرى أنّه من الأهمّيّة الاطّلاع على كامل  هذه النّصوص داخل مجموعة «لا قيمة للأسماء»و الّتي نلمس فيهاذاك المجهود  الّذي تحمّله المُحقّق عبد المجيد يوسف في حسن التّبويب و التّوظيف أيضًا  حتّى نتمكّن من سهولة الولوج إلى التّأويلات الهادفة. 
       و يلاحظ معي القارئ أنّ قيمة مجموعة «لا قيمة للأسماء» لا تكمن فقط في حفظ ذاكرة كاتب مبدع أبدع لنا قصصًا بقيت تنتظرناشرها بل إنّها جاءت لتُعرّفنا على موهبة الرّسم لدى الطّيّار الّذي مات كمدًا على فراق أبيه إلى جانب ما عرّفتنا  عن أنين شاعرة ترمّلت ثمّ فقدت فلذة كبدها  لذلك تجدني أجدّد شكر دار النّشر و الأستاذ عبد المجيد يوسف و كلّ من ساهم من قريب أو بعيد في إصدارهذه المجموعة الّتي جاءت لتُعزّز مكتبتنا الثّقافية، و تُنير  للعموم مسيرة مُبدع عشق الحرف و أخلص للحياة و لإبداعه.
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

بعد ان انطلق يوم الخميس 18 أفريل بورشات فنية وحرفية وبحوث جامعية يتواصل عيد الرعاة بجبل سمّامة في
12:24 - 2024/04/20
ضيفة «لارتيستو» هذا الأسبوع هي العازفة الأولى في تونس على آلة القانون الفنانة الدكتورة خديجة العف
07:00 - 2024/04/20
أيام فقط تفصلنا عن انطلاق الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للمسرح في الصحراء فبعد نجاح الدورة الأول
07:00 - 2024/04/20
بالتعاون المثمر مع المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بنابل ، تبادر جمعية « حسٌ « الثقافية والفنية
07:00 - 2024/04/20
للدورة الثانية على التوالي يتم الاستغناء عن اقامة خيمة الشارع الرئيسي الحبيب بورقيبة لمعرض تونس ا
07:00 - 2024/04/20
الحياة مدرسة والأيام أسئلة والناس إجابات ...وحكايات !
07:00 - 2024/04/20
في أجواء منعشة  ووسط حضور اعلامي  ومجتمعي لافت  احتضنت قاعة المركب الثقافي الشيخ إدريس ببنزرت   س
07:00 - 2024/04/20