التوأمة الرقمية: إعادة تشكيل الذات والهوية في زمن التحول الرقمي وإحتضار العقل العربي

التوأمة الرقمية: إعادة تشكيل الذات والهوية في زمن التحول الرقمي وإحتضار العقل العربي

تاريخ النشر : 14:54 - 2025/10/18

في خضم التحولات التقنية الجذرية التي يشهدها العالم المعاصر، تبرز ظاهرة التوأمة الرقمية كاستعارة فائقة التميز للواقع والنسخ الرقمية، كيان يتخطى حدود التمثيل السطحي ليصبح كيانًا سيميائيًا – تقنيًا قادرًا على تمثيل الديناميكيات الحية للوجود الفيزيائي عبر حقل من البيانات المتواصلة والتفاعلات اللحظية. إن التوأمة الرقمية ليست مجرد إعادة إنتاج رقمي باردة للكيان الأصلي، بل هي تكوين رقمي تكيفي يتمتع بقدرة على المحاكاة الاستشرافية والتنبؤية، ويدخل في دائرة تغذية راجعة مع الكيان الأصلي من خلال تراكم البيانات والتحليل الخوارزمي المعقد، ما يجعلها نموذجًا حيويًا يحاكي الواقع في زمانه ومكانه.
هذه التقنية، التي تعد قمة في سلسلة التطور التكنولوجي المتسارع، ليست مجرد أداة تكنولوجية، بل هي تحوّل أونطولوجي في فهمنا للكينونة والذات، حيث يُعاد صياغة مفهوم الإنسان والهوية من خلال ما يمكن تسميته بالـ"ديجيتال دابلير" أو الازدواج الرقمي. إذ يتبدى الإنسان في هيئة رقمية تحاكي فكره، شخصيته، حتى قراراته، لتصبح التوأمة الرقمية بمثابة امتداد للذات خارج الحدود البيولوجية، تشكل وجودًا هجينيًا بين الطبيعي والصناعي، بين الحقيقة والمجسّم. هذه الحالة تثير تساؤلات جوهرية حول معنى الهوية الذاتية، ومدى إمكانية نقل الوعي البشري، وهل النسخة الرقمية قادرة على امتلاك إرادة أو وعي أو حتى ذاتية تتجاوز الدور البرمجي.

في هذا السياق، لا يمكننا إلا أن ننتقل إلى تفكيك الأوضاع الفكرية والثقافية التي تحد من قدرة العقل العربي التقليدي على مواكبة هذا التحول الأنطولوجي والتكنولوجي. العقل العربي، المتحجر في إطار السائد من الأيديولوجيا والمرجعيات النصية الجامدة، يعيش حالة من الصراع الميتافيزيقي بين التمسك بالتراث الذي يراه ملاذًا وجوديًا وبين الاستجابة للحتمية التقنية التي تهدد استمراريته المعرفية. هذا العقل الذي يحتكم إلى مقولات ثنائية كالحلال والحرام، الصحيح والخطأ، يجد نفسه غير قادر على تبني مقاربات تراكمية أو تجريبية أو نقدية منفتحة. فهو في محاصرة زمنية، مجمد بين ما هو مُثبّت في النص وما هو متغير في الواقع المتقلب.
الاختلاف الجوهري بين العقل الرقمي والعقل العربي التقليدي هو في طبيعة المرجعية المعرفية والأنطولوجيا التي يستند إليها كل منهما؛ الأول يستند إلى عقلانية حسابية تحرّر المعرفة من القيد الأيديولوجي، ويفرض على الوجود نمطًا من التفاعل الخالي من التحيزات الذاتية، بينما الثاني يتأسس على تراث ثابت يمثل نوعًا من التثبيت الأنطولوجي للمعنى والهوية، مما يجعله عرضة للتقوقع الفكري والتقادم المعرفي. "هذا ما يجعل العقل الرقمي أكثر قدرة على التجدد الذاتي والابتكار، بينما العقل العربي، رغم ثرائه التاريخي، يعاني من حالة تأجيل معرفي وأزمة في التحديث.
إن التوأمة الرقمية بهذا المعنى لا تمثل فقط تطورًا تقنيًا، بل هي أيضًا علامة مميزة على إعادة تشكيل العلاقات الأنطولوجية بين الإنسان والتقنية، بين الذات والآخر، وبين الأصالة والتكرار. وهي بذلك تفرض علينا مراجعة فلسفية نقدية للعلاقة بين الإنسان وهويته، في زمن تفكك الأنساق الكبرى وحضور الذكاء الاصطناعي كقوة محورية في تشكيل المستقبل. فما بين حضارة الكلمة والتقنية الرقمية، وبين العقل التراثي والعقل الحسابي، تتشكل لحظة فكرية تستوجب إعادة تعريف الذات الإنسانية في ضوء الأتمتة الرقمية، وتستلزم إبداع أشكال جديدة من الفكر التحرري الذي يمكّن الإنسان العربي من الانعتاق من قيود التراث من دون أن يتخلى عن جوهر إنسانيته.
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

تزامن انعقاد قمّة شرم الشيخ مصر حول السلام في الشرق الأوسط مع مرور ما يزيد على  عامين منذ بدء حرب
07:00 - 2025/10/17
خلق لله جلّ وعلا الإنسان من مادة وروح وجعله مركّبا من جسد ونفس وجعل لكلّ منهما علله وأمراضه فالجس
07:00 - 2025/10/17
في كل صباح، تستيقظ قابس على رائحة لا تشبه البحر، ولا تشبه الحياة.
07:00 - 2025/10/15
«في كل خريف، تعود ذكرى الجلاء لتفتح باب الذاكرة الوطنية التونسية على مشهد كثيف الرمزية: انسحاب آخ
07:00 - 2025/10/15
د. محمد الصادق بوعلاق دكتور مهندس، باحث في مجال الفكر الإسلامي
07:00 - 2025/10/15
هذا إحتمال ممكن جدا، إذ كل ما يريدونه استسلام مقابل ما يسمى سلام.
00:40 - 2025/10/15
د. محمد الصادق بوعلاق دكتور مهندس، باحث في مجال الفكر الإسلامي
07:00 - 2025/10/14
مع اقتراب موعد مناقشة قانون المالية لسنة 2026، تبرز فرصة تاريخية لتونس: جعل هذه السنة نقطة انعطاف
07:00 - 2025/10/13