يحيى المجيد شخصية مثقفة تتكرّر في أعمال المخرج المسرحي حسام الساحلي. وقد كان الظهور الأول لهذه الشخصية سنة 2005 في مسرحية بعنوان "حرارة الروح" التي تدور أحداثها حول كفاءة علمية ومهنية تبحث عن عمل فتصطدم بلجنة الانتدابات التي تضع أمامها عديد العراقيل وتصدّها عن العمل.

وفي العمل الجديد لحسام الساحلي بعنوان "عصفور جنة" التي تمّ تقديم عرضها ما قبل الأول موفى شهر نوفمبر الماضي بدار المسرحي بباردو، تظهر شخصية يحيى المجيد لكن في مواقف أخرى، فالشخصية هذه المرّة تلبس ثوب الفنان المسرحي العرائسي الذي ينزوي بعيدا عن الناس في إحدى الضيعات النائية ونتيجة اليأس والإحبط اللذيْن ألمّا به يقرّر الانتحار شنقا.

ويجسّد الأدوار في مسرحية "عصفور جنة" الثنائي رمزي سليم وفتحي بوسهيلة. وتدور الأحداث على مدى 60 دقيقة حول شخصيتيْن إحداهما في عنفوان الشباب بلغ منه اليأس حد التفكير في الانتحار، أما الشخصية الثانية فهي لكهل مازال متمسكا بالحياة ويريد كتابة صفحات جديدة في الحياة. وبين هاتيْن الشخصيتين يُنفض الغبار عن العديد من الأسرار المكتومة.

ينبئ المكان وهو مبنى مهجور وسط ضيعة نائية بالسكون والجمود والعزلة والانغلاق في زمن هو الليل وما يرمز إليه من هدوء وسكينة. وتتألف محتويات المكان من بوم وهي رمز لثنائية متضادة هي "الحكمة" و"الشؤم" وكذلك من عرائس مشنوقة تتدلى كان قد أعدمها صاحبها قبل أن يقرر تنفيذ حكم الإعدام على نفسه.

وهذه الدلالات المكانية والزمانية هي مرآة لباطن الشخصية وهي يحيى المجيد، شخصية تعيش صراعا ذا بعديْن الأول صراع خارجي مع الواقع بكل مكوناته ومع زوجته التي تجمعهما علاقة انفصال وقطيعة. وأما البعد الثاني فهو صراع داخلي أي بين الشخصية وذاتها وهذا ما يفسر حالة التمزق التي تعيشها وانهيارها النفسي الحاد ما دفعها إلى الإقدام على محاولة الانتحار مرات ومرات.

ترتكز مسرحية "عصفور جنة" على عدة خصائص فنية ما جعلها مميّزة من ناحية الشكل خاصة على مستوى العناصر السينوغرافية المكونة للعرض من اعتماد لتقنية "المابينغ" والإنارة والديكور، فكان الفضاء ممتلئا ثريا وكل عنصر من عناصره له دلالاته ومقاصده وهي موظفة بإحكام لخدمة سيرورة الأحداث في العرض.

وأول ما يشدّ إليه انتباه المتلقي هو عنوان المسرحية "عصفور جنة": فهذا المصطلح المركب من مرادفتيْن يطلق على الوفيات من الأطفال لأنهم يتصفون بالبراءة وخلوّ سجلاتهم من الأفعال المدنسة، بحسب المنظور الديني. وفي المسرحية، يشبه حسام الساحلي الفنان بعصفور الجنة، فهو إلى جانب الصفات المذكورة سلفا يتّصف بالحرية والجمال. وإعدام الفنان كأنه إعدام لنفس حرة وبريئة.

وتسير الأحداث في بدايتها نحو محاولة إقدام يحيى المجيد على الانتحار، لكن عاصفة شديدة دفعت الرجل الكهل للاحتماء في المكان، فيبادر بالحديث مع يحيى المجيد الفنان العرائسي محاولا تأجيل عملية الانتحار. ويدور الحوار بينهما كاشفا عن عديد الأسرار.

وهذا الحوار بين الشخصيتيْن هو في الآن ذاته حوار بين مثقف (يحيى المجيد) ومواطن عادي، والمثير في هذا الحوار هو التحول المفاجئ في المواقف والقيم، فهذا المواطن العادي البسيط ذو المعارف المحدود أصبح ينطق حكمة ويقدم النصح والإرشاد للفنان المثقف والمنهار ويساعده على تجاوز مشاكله النفسية.

وتثير المسرحية عديد القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلى جانب قضايا متصلة بالعدالة والمساواة والحريات. ولكن القضية المحورية والأهم في المسرحية هي: بأي ذنب يُعدم الفنان؟