دفاعا عن مدنية الدولة... الحلقة الأولى
تاريخ النشر : 13:54 - 2020/03/04
كانت أول معركة فكرية في تاريخ الفكر العربي في العصر الحديث، على حدّ علمنا، موضوعها العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، وفقا لما استخدم آنذاك من مصطلحات، قد جرت في مطلع القرن العشرين بين فرح أنطون أحد أعلام الفكر العلماني والشيخ محمد عبده أحد أعلام السلفية الإصلاحية، ذهب فيها أنطون إلى استعراض أسباب خمسة تقتضي في نظره وجوب الفصل القاطع بين السلطتين وأنهى تحليله لتلك الأسباب بقوله " لا مدنية حقيقية، ولا تساهل، ولا عدل، ولا مساواة، ولا أمن، ولا ألفة، ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدّم في الداخل، إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. ولا سلامة للدولة، ولا عزّ في الخارج، إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية"
وها نحن بعد أزيد من قرن على هذا المطلب الذي رفعه رواد التفكير التنويري الحديث نرفع المطلب نفسه وقد ازددنا اقتناعا بأن ذلك الفصل هو الشرط اللازم حقا للعدل والحرية والمساواة وللتقدم ولضمان الاستقرار والأمن ، ولبناء دولة القانون والمؤسسات ولمجتمع المواطنة والمساواة على قاعدة ثابتة، ولقانون صادر عن الإرادة الحرة للمواطنين، ولثقافة التمدن والحريات والحقوق والمسؤولية الواعية ، ولمعارف ينفصل فيها العلمي التجريبي والفلسفي العقلاني عن الديني العقائدي والإيماني انفصال اعتراف متبادل بأنّ لكل منهما مجاله ووظيفته وخصائصه بعيدا عن التناقض وتبادل العداوة. كما حصل في أطوار فارطة من تاريخ المعارف.
الدين والدولة في التاريخ:
ما أبعد هذا الرأي عما حصل في الواقع وعبر التاريخ في الأرض التي تنتسب إلى الإسلام ، وفي كل أرض حكمت بسلطة استمدت من الدين شرعيتها ونفوذها واستخدمت الدين للتغطية على استبدادها، ففي المجال الإسلامي، ومنذ اللحظة التي أعلن فيها عثمان بن عفان " لن أخلع قميصا سربلنيه الله" انطلق مسار الحكم في الأرض باسم الله وتحت غطاء شريعته بعد أن أظهر الخليفة الذي تشهد وقائع التاريخ أن المسلمين أنفسهم هم الذين كلّفوه بتولي أمورهم وليس الله سبحانه وتعاللى، وما إظهار الحكم في قوله هذا قميصا ألبسه إياه الله لا يحقّ لأحد غير الله أن يخلعه عنه إلا انقلاب على إرادة المسلمين الذين ولّوه أمرهم، فكان ذلك الحدث منطلقا لفتنة عصفت بالمسلمين وفرّقتهم شيعا ومذاهب، يدّعي كل منها أنه هو الأوفى تمثيلا للدين والأقرب للتعبير عن الإرادة الإلهية والأكثر شرعية، وليتحول الحكم في نظر كل الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء ، وحتى الرؤساء، الذين تداولوا على هذه الأرض تكليفا من الله مباشرة لا حقّ للبشر في أن يطالبوا من يتولاه بالتنحّي عنه بدعوى أنه خليفة الله أو صورته أو ظله على الأرض، والحال أن المسلمين هم الذين كلفوه في الواقع بتلك المسؤولية وأنه يحقّ لهم خلعه عنها عندما يخلّ بالعقد الذي على أساسه كلّفوه بها، وليبدأ منذ تلك اللحظة المسار التاريخي للاستبداد أو لما وصفه ابن خلدون مسار التحول إلى ملك عضوض كان فيه الدين دائما هو المصدر الذي يستمدّ منه الحكم شرعية للتغطية على الاستبداد والفساد، إذ لا شرعية له ولا مصدر غيره من المنظور السائد آنذاك حيث يتحكم التداخل بين السياسي والديني في طبيعة الوعي العام. وعندما بيّن محمد عابد الجابري في كتابه "العقل السياسي" العربي أن هذا العقل محكوم، بالأمس واليوم، في تكوّنه وفي بنيته ونظامه بمحدّدات ثلاثة هي العقيدة والقبيلة والغنيمة فإنه لم يجانب الصواب كثيرا، فالعقيدة مازالت تستخدم في السياسة وإدارة الشأن العام من أجل إحكام السيطرة على عقول الناس وعلى وعيهم، والقبيلة مازالت القوة الساندة للحكم والتي منها يستمدّ شرعيته ، لا من الشعب، لا اختلاف سوى أن القبيلة المحكومة بمبدأ العصبية الدموية قد تأخذ شكل حزب قائم على عصبية وتعصّب أشد وطأة من العصبية القبلية، أما الغنيمة فكانت ومازالت الغاية الأولى المحركة لأغلب طالبي الحكم في هذه البلدان المنكوبة بساسة يعاملونها على أنها غنيمة يستأثر بها أو تتقاسم وفقا للتحالفات الضامنة للمصالح. وليس هذا المسار التاريخي الذي عرفه المسلمون بمختلف عن مسارات أخرى عرفتها شعوب وأديان مختلفة . فالتاريخ يشهد، لمن يعرفه ومن يحسن استقراءه ولمن يمتلك القدرة على الاستفادة من تجاربه، بأن الاستخدام السياسي للدين كان دائما من أخطر العوامل التي أنتجت الاستبداد وثبّتت أركانه وأضفت عليه شرعية. وإذا كان لنا أن نحيل مرة أخرى على مناظرة فرح أنطون مع الشيخ محمد عبده فلكي نشجع على الاطلاع عليها وعلى ما قدمه أنطون خاصة من الأمثلة والأدلة التاريخية على أن الاستبداد ليس وليد الأديان في ذاتها ، وأن الأديان في هذا سواسية مهما تنوعت باعتبارها تحث على قيم ومبادئ إنسانية تجمع كل الشعوب على الإيمان بها تتناقض بنيويا مع بنية الاستبداد، ولذلك لم ينسق أنطون وراء النهج الذي اعتمده الشيخ عندما حاول البرهنة على أن الاستبداد مسيحي لأن المسيحية محكومة بكنيسة وليس إسلاميا لأن الإسلام لم يعرف في تاريخه مؤسّسة دينية على هيئة المؤسسة الكنسية، بينما ارتفع أنطون عن المفاضلات العقائدية وسوّى بين الأديان من جهة ما تشترك فيه من القيم السامية والمبادئ العليا ، وبرهن في المقابل على أن الاستبداد إنما هو وليد الاستخدام السياسي للدين ، هو وليد استخدام السلطة المدنية، أي الدنيوية السياسية، للسلطة الدينية التي من المفروض أن تكون سلطة أخلاقية معنوية وروحية وقيمية، وأن هذه الحقيقة التاريخية مشتركة بين كل التجارب التاريخية التي استخدم فيها الدين استخداما سياسيا.
إن الادعاء بأن وجود كنيسة في المسيحية وعدم وجود مؤسّسة دينية في الإسلام هو الفارق الجوهري الذي يشرع المطلب بالفصل بين الدولة والكنيسة وسلطتها الدينية هناك ويبطل أي دعوة للفصل بين الديني والسياسي هنا ويجعلها دعوة بغير ذات معنى طالما أن الإسلام دين ودنيا وعقيدة وشريعة لا فصل ولا انفصام بينهما. هذه الحجة التي يستخدمها اليوم دعاة الدولة الدينية قائمة على مغالطات مركّبة، أولها مغالطة تاريخية تستخدم التاريخ لتضفي شرعية على الراهن متجاهلة كلّ ما يفصل بينهما من فوارق جوهرية ولتجعل من ذلك الماضي المرجعية التي يستمد منها كل ما يتصور لبناء الحاضر، ولتجعله الأنموذج المفارق للتاريخ الذي يجب أن يؤبّد وأن يعاد إنتاجه حتى ينصلح حالنا، وإلا فالخسران المبين!! فجاءت كل محاولات بناء الحاضر على هيئة الماضي مفارقات تسجننا في مآزقها فلا نعرف كيف نمتلك حاضرنا ولا كيف نتحرّر من سطوة الماضي، وثانيها مغالطة مفهومية تقوم على اعتبار أن كل مؤسسة دينية يجب أن تكون على هيئة الكنيسة حتى يعترف بها مؤسّسة، والحال أن لكل دين مسار مأسسة مخصوصا اتخذت فيه مؤسّساته أشكالا مخصوصة، إذ لا وجود في التاريخ وفي الواقع لدين بلا مؤسسات. فهل يمكن أن ننكر أن الإمامة والولاية والحسبة والقضاء والفتوى والفقه لم تكن في واقع الإسلام التاريخي مؤسسات ذات مرجعية دينية ؟ وهل يمكن أن ننكر أن هذه المؤسسات أدت في المجال الإسلامي أدوارا مماثلة من حيث بنيتها ووضعها للأدوار التي أدتها الكنيسة في المجال المسيحي؟ وهل من باب الموضوعية العلمية أن ننكر الوقائع الفعلية وأن نحرّفها وننتقي منها ما نريد حتى نقنع بأطروحاتنا أم علينا أن نقرأ التاريخ بما يقتضيه من موضوعية وحياد؟ وهل بهذا النهج المغالطي نحافظ على هويتنا أو حتى نكون أقدر على فهم الحاضر وعلى حل مآزقه ومشكلاته؟
إن الدولة الدينية، يهودية كانت، كما نراها واقعا اليوم في الدولة الصهيونية، أو مسيحية كما عرفناها في العصور الوسطى ومن خلال الحروب الدينية داخليا أو الصليبية خارجيا، أو إسلامية كما يشهد التاريخ في أكثر من طور، لا يمكن إلا أن تكون دولة قهرية طبيعتها استبدادية. وهذا هو الموقف المحوري الذي ظل يوجه أنطون في مناظرته مع الشيخ محمد عبده
إن الاختلافات الجوهرية بين الدين والسياسة من حيث الطبائع والوظائف تستدعي ضرورة الفصل بينهما، فالأديان مجالها العبادة والعمل على تزكية النفس وإصلاحها بواسطة ما يدعو إليه الدين من الفضائل وهذا قناعة واختيار لا يكونان إلا فرديين، والدين تجربة روحانية لا تكون هي الأخرى إلا فردية لا دخل فيها لغير الشخص المعني ولا مسؤولية لأحد عن ذلك الاختيار وعن تلك القناعات سوى الشخص المعني نفسه. وهذه القناعات وتلك التجربة يتغلغلان في أعمق أعماق النفس عندما يكونان صادقين ونابعين من اقتناع شخصي ومن إخلاص ذاتي فيكون الدين عامل مصالحة مع الذات وتوازن وانسجام بما ينعكس ضرورة بالقيم نفسها على العلاقات الاجتماعية ، وليس مجرد شكليات أو تقاليد تتوارث حرفيا ويتبعها المرء دون تفكير ولا تدبير. وعندما يكون وضع الدين عند الفرد على هذا النحو فإنه يوجّه رؤيته إلى ذاته فيكون متوازنا ويكون لوجوده معنى ، ويوجه رؤيته للآخرين حوله فيكون متسامحا محبّا لأن كل الآخرين عيال الله وخلقه ودليل وجوده، وهو وحده من يقدّر حقيقة علاقتهم به فيجازي أو يعاقب ، عندما يتمثّل المؤمن الدين على هذا النحو في رؤيته إلى العالم من حوله يصير جزءا لا يتجزأ منه فيحترمه ويجلّه ويحافظ على وحدته وانسجامه وعلى ثرواته بصفتها من عطايا الله إلى خلقه، أما هذا التدين الشكلي الذي يستعرضونه علينا بينما نرى من سلوكهم ما يرعب ويخيف ويدفع إلى التساؤل عن حظ الإنسانية في ذواتهم، هذا التدين الطقوسي الذي يملؤون به الفضاء ضجيجا بينما تكتشف من أخلاقهم ما لا يحتاج إلى دليل على تناقضه مع كل القيم الدينية والخلقية والإنسانية ، عندما ترى تديّنهم مقترنا بالحقد والكره وبالقتل والتنكيل وترهيب من لا ذنب لهم تدرك أن هذا ليس من أخلاق الدين في شيء وأنما هي من أخلاق السياسة وأنها من أكثر ما يسيء إلى الدين نفسه.
أما السياسة فمجالها العمومي التعاقدي بين المجموعة هدفها حفظ المصالح الدنيوية وتهيئة أسباب الاستقرار والأمن وتمكين كل فرد من الحقوق التي تكفلها له القوانين المتعاقد عليها وضبط الواجبات التي يقتضيها العيش المشترك والتي يتساوى بشأنها الأفراد أمام القانون وفيه، فلا دخل لانتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجهوية أو الجنسية أو الاجتماعية في تحديد وضعهم القانوني بما يعنيه ذلك من عدالة ومساواة
في مفهوم المدنية وشروط دولتها / يتبع

كانت أول معركة فكرية في تاريخ الفكر العربي في العصر الحديث، على حدّ علمنا، موضوعها العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، وفقا لما استخدم آنذاك من مصطلحات، قد جرت في مطلع القرن العشرين بين فرح أنطون أحد أعلام الفكر العلماني والشيخ محمد عبده أحد أعلام السلفية الإصلاحية، ذهب فيها أنطون إلى استعراض أسباب خمسة تقتضي في نظره وجوب الفصل القاطع بين السلطتين وأنهى تحليله لتلك الأسباب بقوله " لا مدنية حقيقية، ولا تساهل، ولا عدل، ولا مساواة، ولا أمن، ولا ألفة، ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدّم في الداخل، إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. ولا سلامة للدولة، ولا عزّ في الخارج، إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية"
وها نحن بعد أزيد من قرن على هذا المطلب الذي رفعه رواد التفكير التنويري الحديث نرفع المطلب نفسه وقد ازددنا اقتناعا بأن ذلك الفصل هو الشرط اللازم حقا للعدل والحرية والمساواة وللتقدم ولضمان الاستقرار والأمن ، ولبناء دولة القانون والمؤسسات ولمجتمع المواطنة والمساواة على قاعدة ثابتة، ولقانون صادر عن الإرادة الحرة للمواطنين، ولثقافة التمدن والحريات والحقوق والمسؤولية الواعية ، ولمعارف ينفصل فيها العلمي التجريبي والفلسفي العقلاني عن الديني العقائدي والإيماني انفصال اعتراف متبادل بأنّ لكل منهما مجاله ووظيفته وخصائصه بعيدا عن التناقض وتبادل العداوة. كما حصل في أطوار فارطة من تاريخ المعارف.
الدين والدولة في التاريخ:
ما أبعد هذا الرأي عما حصل في الواقع وعبر التاريخ في الأرض التي تنتسب إلى الإسلام ، وفي كل أرض حكمت بسلطة استمدت من الدين شرعيتها ونفوذها واستخدمت الدين للتغطية على استبدادها، ففي المجال الإسلامي، ومنذ اللحظة التي أعلن فيها عثمان بن عفان " لن أخلع قميصا سربلنيه الله" انطلق مسار الحكم في الأرض باسم الله وتحت غطاء شريعته بعد أن أظهر الخليفة الذي تشهد وقائع التاريخ أن المسلمين أنفسهم هم الذين كلّفوه بتولي أمورهم وليس الله سبحانه وتعاللى، وما إظهار الحكم في قوله هذا قميصا ألبسه إياه الله لا يحقّ لأحد غير الله أن يخلعه عنه إلا انقلاب على إرادة المسلمين الذين ولّوه أمرهم، فكان ذلك الحدث منطلقا لفتنة عصفت بالمسلمين وفرّقتهم شيعا ومذاهب، يدّعي كل منها أنه هو الأوفى تمثيلا للدين والأقرب للتعبير عن الإرادة الإلهية والأكثر شرعية، وليتحول الحكم في نظر كل الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء ، وحتى الرؤساء، الذين تداولوا على هذه الأرض تكليفا من الله مباشرة لا حقّ للبشر في أن يطالبوا من يتولاه بالتنحّي عنه بدعوى أنه خليفة الله أو صورته أو ظله على الأرض، والحال أن المسلمين هم الذين كلفوه في الواقع بتلك المسؤولية وأنه يحقّ لهم خلعه عنها عندما يخلّ بالعقد الذي على أساسه كلّفوه بها، وليبدأ منذ تلك اللحظة المسار التاريخي للاستبداد أو لما وصفه ابن خلدون مسار التحول إلى ملك عضوض كان فيه الدين دائما هو المصدر الذي يستمدّ منه الحكم شرعية للتغطية على الاستبداد والفساد، إذ لا شرعية له ولا مصدر غيره من المنظور السائد آنذاك حيث يتحكم التداخل بين السياسي والديني في طبيعة الوعي العام. وعندما بيّن محمد عابد الجابري في كتابه "العقل السياسي" العربي أن هذا العقل محكوم، بالأمس واليوم، في تكوّنه وفي بنيته ونظامه بمحدّدات ثلاثة هي العقيدة والقبيلة والغنيمة فإنه لم يجانب الصواب كثيرا، فالعقيدة مازالت تستخدم في السياسة وإدارة الشأن العام من أجل إحكام السيطرة على عقول الناس وعلى وعيهم، والقبيلة مازالت القوة الساندة للحكم والتي منها يستمدّ شرعيته ، لا من الشعب، لا اختلاف سوى أن القبيلة المحكومة بمبدأ العصبية الدموية قد تأخذ شكل حزب قائم على عصبية وتعصّب أشد وطأة من العصبية القبلية، أما الغنيمة فكانت ومازالت الغاية الأولى المحركة لأغلب طالبي الحكم في هذه البلدان المنكوبة بساسة يعاملونها على أنها غنيمة يستأثر بها أو تتقاسم وفقا للتحالفات الضامنة للمصالح. وليس هذا المسار التاريخي الذي عرفه المسلمون بمختلف عن مسارات أخرى عرفتها شعوب وأديان مختلفة . فالتاريخ يشهد، لمن يعرفه ومن يحسن استقراءه ولمن يمتلك القدرة على الاستفادة من تجاربه، بأن الاستخدام السياسي للدين كان دائما من أخطر العوامل التي أنتجت الاستبداد وثبّتت أركانه وأضفت عليه شرعية. وإذا كان لنا أن نحيل مرة أخرى على مناظرة فرح أنطون مع الشيخ محمد عبده فلكي نشجع على الاطلاع عليها وعلى ما قدمه أنطون خاصة من الأمثلة والأدلة التاريخية على أن الاستبداد ليس وليد الأديان في ذاتها ، وأن الأديان في هذا سواسية مهما تنوعت باعتبارها تحث على قيم ومبادئ إنسانية تجمع كل الشعوب على الإيمان بها تتناقض بنيويا مع بنية الاستبداد، ولذلك لم ينسق أنطون وراء النهج الذي اعتمده الشيخ عندما حاول البرهنة على أن الاستبداد مسيحي لأن المسيحية محكومة بكنيسة وليس إسلاميا لأن الإسلام لم يعرف في تاريخه مؤسّسة دينية على هيئة المؤسسة الكنسية، بينما ارتفع أنطون عن المفاضلات العقائدية وسوّى بين الأديان من جهة ما تشترك فيه من القيم السامية والمبادئ العليا ، وبرهن في المقابل على أن الاستبداد إنما هو وليد الاستخدام السياسي للدين ، هو وليد استخدام السلطة المدنية، أي الدنيوية السياسية، للسلطة الدينية التي من المفروض أن تكون سلطة أخلاقية معنوية وروحية وقيمية، وأن هذه الحقيقة التاريخية مشتركة بين كل التجارب التاريخية التي استخدم فيها الدين استخداما سياسيا.
إن الادعاء بأن وجود كنيسة في المسيحية وعدم وجود مؤسّسة دينية في الإسلام هو الفارق الجوهري الذي يشرع المطلب بالفصل بين الدولة والكنيسة وسلطتها الدينية هناك ويبطل أي دعوة للفصل بين الديني والسياسي هنا ويجعلها دعوة بغير ذات معنى طالما أن الإسلام دين ودنيا وعقيدة وشريعة لا فصل ولا انفصام بينهما. هذه الحجة التي يستخدمها اليوم دعاة الدولة الدينية قائمة على مغالطات مركّبة، أولها مغالطة تاريخية تستخدم التاريخ لتضفي شرعية على الراهن متجاهلة كلّ ما يفصل بينهما من فوارق جوهرية ولتجعل من ذلك الماضي المرجعية التي يستمد منها كل ما يتصور لبناء الحاضر، ولتجعله الأنموذج المفارق للتاريخ الذي يجب أن يؤبّد وأن يعاد إنتاجه حتى ينصلح حالنا، وإلا فالخسران المبين!! فجاءت كل محاولات بناء الحاضر على هيئة الماضي مفارقات تسجننا في مآزقها فلا نعرف كيف نمتلك حاضرنا ولا كيف نتحرّر من سطوة الماضي، وثانيها مغالطة مفهومية تقوم على اعتبار أن كل مؤسسة دينية يجب أن تكون على هيئة الكنيسة حتى يعترف بها مؤسّسة، والحال أن لكل دين مسار مأسسة مخصوصا اتخذت فيه مؤسّساته أشكالا مخصوصة، إذ لا وجود في التاريخ وفي الواقع لدين بلا مؤسسات. فهل يمكن أن ننكر أن الإمامة والولاية والحسبة والقضاء والفتوى والفقه لم تكن في واقع الإسلام التاريخي مؤسسات ذات مرجعية دينية ؟ وهل يمكن أن ننكر أن هذه المؤسسات أدت في المجال الإسلامي أدوارا مماثلة من حيث بنيتها ووضعها للأدوار التي أدتها الكنيسة في المجال المسيحي؟ وهل من باب الموضوعية العلمية أن ننكر الوقائع الفعلية وأن نحرّفها وننتقي منها ما نريد حتى نقنع بأطروحاتنا أم علينا أن نقرأ التاريخ بما يقتضيه من موضوعية وحياد؟ وهل بهذا النهج المغالطي نحافظ على هويتنا أو حتى نكون أقدر على فهم الحاضر وعلى حل مآزقه ومشكلاته؟
إن الدولة الدينية، يهودية كانت، كما نراها واقعا اليوم في الدولة الصهيونية، أو مسيحية كما عرفناها في العصور الوسطى ومن خلال الحروب الدينية داخليا أو الصليبية خارجيا، أو إسلامية كما يشهد التاريخ في أكثر من طور، لا يمكن إلا أن تكون دولة قهرية طبيعتها استبدادية. وهذا هو الموقف المحوري الذي ظل يوجه أنطون في مناظرته مع الشيخ محمد عبده
إن الاختلافات الجوهرية بين الدين والسياسة من حيث الطبائع والوظائف تستدعي ضرورة الفصل بينهما، فالأديان مجالها العبادة والعمل على تزكية النفس وإصلاحها بواسطة ما يدعو إليه الدين من الفضائل وهذا قناعة واختيار لا يكونان إلا فرديين، والدين تجربة روحانية لا تكون هي الأخرى إلا فردية لا دخل فيها لغير الشخص المعني ولا مسؤولية لأحد عن ذلك الاختيار وعن تلك القناعات سوى الشخص المعني نفسه. وهذه القناعات وتلك التجربة يتغلغلان في أعمق أعماق النفس عندما يكونان صادقين ونابعين من اقتناع شخصي ومن إخلاص ذاتي فيكون الدين عامل مصالحة مع الذات وتوازن وانسجام بما ينعكس ضرورة بالقيم نفسها على العلاقات الاجتماعية ، وليس مجرد شكليات أو تقاليد تتوارث حرفيا ويتبعها المرء دون تفكير ولا تدبير. وعندما يكون وضع الدين عند الفرد على هذا النحو فإنه يوجّه رؤيته إلى ذاته فيكون متوازنا ويكون لوجوده معنى ، ويوجه رؤيته للآخرين حوله فيكون متسامحا محبّا لأن كل الآخرين عيال الله وخلقه ودليل وجوده، وهو وحده من يقدّر حقيقة علاقتهم به فيجازي أو يعاقب ، عندما يتمثّل المؤمن الدين على هذا النحو في رؤيته إلى العالم من حوله يصير جزءا لا يتجزأ منه فيحترمه ويجلّه ويحافظ على وحدته وانسجامه وعلى ثرواته بصفتها من عطايا الله إلى خلقه، أما هذا التدين الشكلي الذي يستعرضونه علينا بينما نرى من سلوكهم ما يرعب ويخيف ويدفع إلى التساؤل عن حظ الإنسانية في ذواتهم، هذا التدين الطقوسي الذي يملؤون به الفضاء ضجيجا بينما تكتشف من أخلاقهم ما لا يحتاج إلى دليل على تناقضه مع كل القيم الدينية والخلقية والإنسانية ، عندما ترى تديّنهم مقترنا بالحقد والكره وبالقتل والتنكيل وترهيب من لا ذنب لهم تدرك أن هذا ليس من أخلاق الدين في شيء وأنما هي من أخلاق السياسة وأنها من أكثر ما يسيء إلى الدين نفسه.
أما السياسة فمجالها العمومي التعاقدي بين المجموعة هدفها حفظ المصالح الدنيوية وتهيئة أسباب الاستقرار والأمن وتمكين كل فرد من الحقوق التي تكفلها له القوانين المتعاقد عليها وضبط الواجبات التي يقتضيها العيش المشترك والتي يتساوى بشأنها الأفراد أمام القانون وفيه، فلا دخل لانتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجهوية أو الجنسية أو الاجتماعية في تحديد وضعهم القانوني بما يعنيه ذلك من عدالة ومساواة
في مفهوم المدنية وشروط دولتها / يتبع