الدكتور محمد مومن يكتب لـ"الشروق اون لاين": " آخِرُ مَرَّة" لوفاء الطبوبي .. الأسلوب الكبير مسرحا
تاريخ النشر : 17:44 - 2021/12/10
سنتحدّث عمّا يبدو لنا السّمة الكبرى والأولى لهذه التّحفة الفنيّة المسمّاة ب " آخِرُ مَرَّة " لوَفَاء الطَّبُّوبِي ألا وهي " الخِفَّةُ ". وهي التي تُعرف في أعرافنا الأدبية ب " الرَّشَاقَةُ ". وما الرّشاقة هذي؟ إنّها من صفات الأثر الذي يمتلك ما يسمّيه نِيتْشَه " الأُسْلُوب الكَبِير "، وبه يعني شيئا ما ممّا يمكن أن يكون أسلوبا سامِيا رفيعا؛، وسمّيه ما شئت، فمهما كان عليك تسميته، فلن تقول فيه أقلّ من أنه أسلوبٌ عظيم، لأنه وعلى كل حال أسلوب يُصاحب فيه الجميلُ الجليلَ ينضاف إليهما شيء آخر هو مزيج متألّف من قوى متصارعة تتنازع فيه : " قِوَى فَاعِلَةٌ "، وهي عناصر لها طاقات إيجابيّة من شأنها تقوية الحياة، تنمّيها وتعزّزها، و" قِوَى مُتَفَاعِلَةٌ "، وهي كل تلك الحوادث التي لها طاقات سلبيّة من آثارها إضعاف الحياة، إماتتها وتجفيفها. ف " الأُسْلْوبُ الكَبِير " توازن وتوافق يُولَدُ من تجافٍ وتنافرٍ. فهو في الأخير نَتاجُ تصارع أبديّ بين قوى الحياة وقوى الموت. ولعله يتجلىّ في أبْيَن صيغه في صور التّشييد والتّهديم، وصيغ البناء والتّخريب. لن نرى في ما يُنسب إلى الأسلوب العظيم غير روعة اتّحاد في غاية التناغم بين محتوى وتعبير وتجانس بديع بين مضمونٍ وشكلٍ متين. هو من آيات التآلف نادرة الوجود بين المعنى والمغنى. في الوهلة الأولى، يبدو لنا هذا التوافق بسيطا، في متناول أيٍّ كان منا، يصيبه من يشاء من العباد، والحال أنّه صعب المنال عسير التّحصيل لا يبلغه إلاّ مَن تجوّل مِن كبار المغامرين في أقاصي الدنيا وأطراف العالم، في قمم جبال الإبداع الشّاهقة، في هِيمَالاَيَا الخلق. أزعم أن " آخِر مَرَّة " لوفاء الطبوبي من معدن الآثار التي تتحلّى بهذا " الأُسْلُوبِ الكَبِيرِ " كما يفهمه نيتشة، حيث يعرفه ويُعرّفه بالرشاقة. والرشاقة بساطة أوّلا. وهي أناقة وطلاقة جوهرا، وهي لطافة وهي سلاسة أساسا : وهي قريبة جدا مما كان القدامى يسمّونه الجزالة وإن عنينا شيئا بالرشاقة فإنما الحريّة. فالحرية هي والدة الرشاقة وهي وليدتها، ثمرتها الفردوسيّة : إنها من جوهر الحياة.
البساطة
ما يميّز الرشاقةَ البساطةُ. وهي ميزة يتحلّى بها ما تجاوز، مثل " آخِرِ مَرّة "، كل التعقيدات وعَبَرَها. مسرحيتنا لا تحبّذ ما كان عصيّ التركيبات. ما نقف عليه هو أنها تجنح للبساطة بما هي ليست هروبا من التعقيد وإنما تجاوزا له، وإذا بنا حيال ما هو منتهى سهولة التّعبير. وليس من السّهل أن تأتي صيغ التعبير سهلة. وها نحن نراها وقد هربت من كلّ تشكّل وتعقّد، في فرار عجيب من الغريب وترك للمتروك وتحاشي للوحشيّ والمهجور. وأن تهرب معا مما هو وحشي ومبتذل إنه وعي وسعي. فالوعي ههنا كبير كبير والسّعي جهيد جهيد. البساطة هي آخر صيغ التّعقيد، نعم. لا خلاف أن التعقيد نسبيّ، ولكن في الفعل التّواصلي، كما هو في أمر الفن، تأتي لحظة، تأتي لُمعة، تأتي لَمْحَة نأتي أثناءها على منطقة بعينها، لا يمكن فيها جميعنا إلا أن يتلاقى، من يبثّ منا ومن يتلقّى، فنتقاسم نفس الشّفرة، ويكون التواصل والتفاهم، وإذا بنا نتكلّم نفس اللغة. " آخِرُ مَرَّة " تكلّمنا ببساطة بلغتنا فنفهمها ونتفاهم معها. من أين جاءت هذه البساطة؟ من طَرْقها مسائل وأغراض تخاطبنا في اليوميّ من حياتنا. فإذا همَّهَا هَمُّاَ. لا مسافة لا تجافي بيننا. ليس هناك أيّ صحراء بيننا وجب قطعها لتلاقينا. لا شيء فينا يصرخ " ألا ليت بيننا بيد على بيد". لأننا تواددنا وتحاببنا. ولَإِن كان بيننا خلاف فلقد انتهى واختفى. " آخِرُ مَرَّة " تُصادف هوى في نفوسنا لأنها جارتنا، بل شقيقتنا في حوارات أروا حنا مع أرواحنا، في نجوانا، في حميم نقاشاتنا وحميميّتنا. وكأنها تصوّر لنا ركحا، صوتا وجسدا، قولا وفعلا، ما يعتمل في عقولنا وصدورنا. لقد صارت حكاياتها حكاياتنا وما كانت من قبل حكاياتنا حكاياتها. ألا إنه التماهي في أجلى وأجلّ آياته.
ثالث الثلاث
آخِرُ مَرَّةٍ " تحكي دراميا عن علاقة المرأة بالرّجل بما هي عدم تواصل وسوء تفاهم. وسنرى أن سوء التفاهم هو سوء تعبير عن الحب. هؤلاء أناس يشبهوننا يحبّون ولكن مثلنا لا يعرفون كيف يحبّون وكيف يعبّرون عن حبّهم. قدِم، بل بَلِيَ المسرح، خصوصا الحديث منه، في الحديث عن هذه العلاقة بين النساء والرجال. لا جدّة ولا طرافة هناك في موضوع كهذا. إنه ممّا لم يغادره الفن الدرامي في أيٍّ من الأزمان. تركيبيا، تأخذ الحكاية وجها متعدّد الوجوه. وإذا بها تتفرّع كالشجرة إلى ثلاث حكايات. أولاها هي حكاية إمرأة متزوجة عاملة تعاني من علاقاتها المتدنية مع مسؤول مؤسسة فاسد يلاحقها ويحاول إيقاعها بشتى الصيغ في علاقة خنائية وزنائية. إنها هنا المرأة المعشوقة التي يُراد منها أن تستحيل إلى عشيقة. وثاني حكايات" آخِرُ مَرَّةٍ " هي قصّة أمّ عانت الأمرّين لتربّي وحدها ابنها حتى استوى شابا ليس عائقا ولكنه ليس ذلك الولد الذي حلمت بسلوكه وأخلاقه المثالية. إنه وجه الأمومة التي تعاني وترى أحلامها تموت وتتبخّر. أما ثالث حكاية فهي تصوّر تدهور علاقة الحب بين زوجة بزوجها رغم حبهما لبعضهما ربما بسب طول العشرة بينهما. هذه الحكايات الثلاث هي ثلاث وجوه متنوعة لعين الحكاية، وهي هذه العلاقات المتدهورة بين الذكر والأنثى. والتدهور يولّد علاقات طبعا غير سوية، بل مهتزّة. نحن أمام ما يشبه العلاقات المجنونة بين هؤلاء البشر. نمرّ من الحياة العامة بين المرأة العاملة ومشغّلها المدير إلى الحياة الخاصّة الحميمة بين الأم والابن وننتهي بالحياة الحميميّة بين الزوجة والزوجها. ههنا، بهذه القصص الثلاث المنفصلة والمتصلة، نرى المرأة في وجوه رئيسة من حياتها في خضم أمواج بحر مجتمع ما زال ذكوريا لا يؤمن بالمرأة ككائن قادر أن يكون نورانيا مستنيرا ومنيرا، بانٍ للحضارة والنظارة، حامل للحياة والجمال والجلال. فها هي في الفصل الأول إمرأة ككل النساء في مواطن الشغل التي اهتزّت، في صراع تراجيديّ ( تراجيديا اجتماعية حديثة) مع قوى عالم لا تحكمه إلا قوانين غاب الرجال الأوغاد الذين لا يحلمون إلا بالإيقاع بالآخر، يعني بمواقعة الأنثى، الأنثى وليس المرأة، لأنهم لا يرون المرأة إلا أنثى، جنسا، جسدا يُشتهى فيُمتلك. ثم ها هي هذه المرأة في الفصل الثاني، نفاجئها في البيت، في صورة الأم؛ أُمّ ضحّت بحياتها كلها من أجل وحيدها لكن حبها فاسد قاتل خانق حارم ابنَها من حياته سارق إيّاه حريته كلّها. وفي الفصل الثالث ( والأخير؟) ننتهي إلى معاشرة زوجين يحبان بعضهما بعضا بعنف ولكن نراهما يعيشان في جحيم دَانْتَسْكِي ( من دَانْتِي ).

سنتحدّث عمّا يبدو لنا السّمة الكبرى والأولى لهذه التّحفة الفنيّة المسمّاة ب " آخِرُ مَرَّة " لوَفَاء الطَّبُّوبِي ألا وهي " الخِفَّةُ ". وهي التي تُعرف في أعرافنا الأدبية ب " الرَّشَاقَةُ ". وما الرّشاقة هذي؟ إنّها من صفات الأثر الذي يمتلك ما يسمّيه نِيتْشَه " الأُسْلُوب الكَبِير "، وبه يعني شيئا ما ممّا يمكن أن يكون أسلوبا سامِيا رفيعا؛، وسمّيه ما شئت، فمهما كان عليك تسميته، فلن تقول فيه أقلّ من أنه أسلوبٌ عظيم، لأنه وعلى كل حال أسلوب يُصاحب فيه الجميلُ الجليلَ ينضاف إليهما شيء آخر هو مزيج متألّف من قوى متصارعة تتنازع فيه : " قِوَى فَاعِلَةٌ "، وهي عناصر لها طاقات إيجابيّة من شأنها تقوية الحياة، تنمّيها وتعزّزها، و" قِوَى مُتَفَاعِلَةٌ "، وهي كل تلك الحوادث التي لها طاقات سلبيّة من آثارها إضعاف الحياة، إماتتها وتجفيفها. ف " الأُسْلْوبُ الكَبِير " توازن وتوافق يُولَدُ من تجافٍ وتنافرٍ. فهو في الأخير نَتاجُ تصارع أبديّ بين قوى الحياة وقوى الموت. ولعله يتجلىّ في أبْيَن صيغه في صور التّشييد والتّهديم، وصيغ البناء والتّخريب. لن نرى في ما يُنسب إلى الأسلوب العظيم غير روعة اتّحاد في غاية التناغم بين محتوى وتعبير وتجانس بديع بين مضمونٍ وشكلٍ متين. هو من آيات التآلف نادرة الوجود بين المعنى والمغنى. في الوهلة الأولى، يبدو لنا هذا التوافق بسيطا، في متناول أيٍّ كان منا، يصيبه من يشاء من العباد، والحال أنّه صعب المنال عسير التّحصيل لا يبلغه إلاّ مَن تجوّل مِن كبار المغامرين في أقاصي الدنيا وأطراف العالم، في قمم جبال الإبداع الشّاهقة، في هِيمَالاَيَا الخلق. أزعم أن " آخِر مَرَّة " لوفاء الطبوبي من معدن الآثار التي تتحلّى بهذا " الأُسْلُوبِ الكَبِيرِ " كما يفهمه نيتشة، حيث يعرفه ويُعرّفه بالرشاقة. والرشاقة بساطة أوّلا. وهي أناقة وطلاقة جوهرا، وهي لطافة وهي سلاسة أساسا : وهي قريبة جدا مما كان القدامى يسمّونه الجزالة وإن عنينا شيئا بالرشاقة فإنما الحريّة. فالحرية هي والدة الرشاقة وهي وليدتها، ثمرتها الفردوسيّة : إنها من جوهر الحياة.
البساطة
ما يميّز الرشاقةَ البساطةُ. وهي ميزة يتحلّى بها ما تجاوز، مثل " آخِرِ مَرّة "، كل التعقيدات وعَبَرَها. مسرحيتنا لا تحبّذ ما كان عصيّ التركيبات. ما نقف عليه هو أنها تجنح للبساطة بما هي ليست هروبا من التعقيد وإنما تجاوزا له، وإذا بنا حيال ما هو منتهى سهولة التّعبير. وليس من السّهل أن تأتي صيغ التعبير سهلة. وها نحن نراها وقد هربت من كلّ تشكّل وتعقّد، في فرار عجيب من الغريب وترك للمتروك وتحاشي للوحشيّ والمهجور. وأن تهرب معا مما هو وحشي ومبتذل إنه وعي وسعي. فالوعي ههنا كبير كبير والسّعي جهيد جهيد. البساطة هي آخر صيغ التّعقيد، نعم. لا خلاف أن التعقيد نسبيّ، ولكن في الفعل التّواصلي، كما هو في أمر الفن، تأتي لحظة، تأتي لُمعة، تأتي لَمْحَة نأتي أثناءها على منطقة بعينها، لا يمكن فيها جميعنا إلا أن يتلاقى، من يبثّ منا ومن يتلقّى، فنتقاسم نفس الشّفرة، ويكون التواصل والتفاهم، وإذا بنا نتكلّم نفس اللغة. " آخِرُ مَرَّة " تكلّمنا ببساطة بلغتنا فنفهمها ونتفاهم معها. من أين جاءت هذه البساطة؟ من طَرْقها مسائل وأغراض تخاطبنا في اليوميّ من حياتنا. فإذا همَّهَا هَمُّاَ. لا مسافة لا تجافي بيننا. ليس هناك أيّ صحراء بيننا وجب قطعها لتلاقينا. لا شيء فينا يصرخ " ألا ليت بيننا بيد على بيد". لأننا تواددنا وتحاببنا. ولَإِن كان بيننا خلاف فلقد انتهى واختفى. " آخِرُ مَرَّة " تُصادف هوى في نفوسنا لأنها جارتنا، بل شقيقتنا في حوارات أروا حنا مع أرواحنا، في نجوانا، في حميم نقاشاتنا وحميميّتنا. وكأنها تصوّر لنا ركحا، صوتا وجسدا، قولا وفعلا، ما يعتمل في عقولنا وصدورنا. لقد صارت حكاياتها حكاياتنا وما كانت من قبل حكاياتنا حكاياتها. ألا إنه التماهي في أجلى وأجلّ آياته.
ثالث الثلاث
آخِرُ مَرَّةٍ " تحكي دراميا عن علاقة المرأة بالرّجل بما هي عدم تواصل وسوء تفاهم. وسنرى أن سوء التفاهم هو سوء تعبير عن الحب. هؤلاء أناس يشبهوننا يحبّون ولكن مثلنا لا يعرفون كيف يحبّون وكيف يعبّرون عن حبّهم. قدِم، بل بَلِيَ المسرح، خصوصا الحديث منه، في الحديث عن هذه العلاقة بين النساء والرجال. لا جدّة ولا طرافة هناك في موضوع كهذا. إنه ممّا لم يغادره الفن الدرامي في أيٍّ من الأزمان. تركيبيا، تأخذ الحكاية وجها متعدّد الوجوه. وإذا بها تتفرّع كالشجرة إلى ثلاث حكايات. أولاها هي حكاية إمرأة متزوجة عاملة تعاني من علاقاتها المتدنية مع مسؤول مؤسسة فاسد يلاحقها ويحاول إيقاعها بشتى الصيغ في علاقة خنائية وزنائية. إنها هنا المرأة المعشوقة التي يُراد منها أن تستحيل إلى عشيقة. وثاني حكايات" آخِرُ مَرَّةٍ " هي قصّة أمّ عانت الأمرّين لتربّي وحدها ابنها حتى استوى شابا ليس عائقا ولكنه ليس ذلك الولد الذي حلمت بسلوكه وأخلاقه المثالية. إنه وجه الأمومة التي تعاني وترى أحلامها تموت وتتبخّر. أما ثالث حكاية فهي تصوّر تدهور علاقة الحب بين زوجة بزوجها رغم حبهما لبعضهما ربما بسب طول العشرة بينهما. هذه الحكايات الثلاث هي ثلاث وجوه متنوعة لعين الحكاية، وهي هذه العلاقات المتدهورة بين الذكر والأنثى. والتدهور يولّد علاقات طبعا غير سوية، بل مهتزّة. نحن أمام ما يشبه العلاقات المجنونة بين هؤلاء البشر. نمرّ من الحياة العامة بين المرأة العاملة ومشغّلها المدير إلى الحياة الخاصّة الحميمة بين الأم والابن وننتهي بالحياة الحميميّة بين الزوجة والزوجها. ههنا، بهذه القصص الثلاث المنفصلة والمتصلة، نرى المرأة في وجوه رئيسة من حياتها في خضم أمواج بحر مجتمع ما زال ذكوريا لا يؤمن بالمرأة ككائن قادر أن يكون نورانيا مستنيرا ومنيرا، بانٍ للحضارة والنظارة، حامل للحياة والجمال والجلال. فها هي في الفصل الأول إمرأة ككل النساء في مواطن الشغل التي اهتزّت، في صراع تراجيديّ ( تراجيديا اجتماعية حديثة) مع قوى عالم لا تحكمه إلا قوانين غاب الرجال الأوغاد الذين لا يحلمون إلا بالإيقاع بالآخر، يعني بمواقعة الأنثى، الأنثى وليس المرأة، لأنهم لا يرون المرأة إلا أنثى، جنسا، جسدا يُشتهى فيُمتلك. ثم ها هي هذه المرأة في الفصل الثاني، نفاجئها في البيت، في صورة الأم؛ أُمّ ضحّت بحياتها كلها من أجل وحيدها لكن حبها فاسد قاتل خانق حارم ابنَها من حياته سارق إيّاه حريته كلّها. وفي الفصل الثالث ( والأخير؟) ننتهي إلى معاشرة زوجين يحبان بعضهما بعضا بعنف ولكن نراهما يعيشان في جحيم دَانْتَسْكِي ( من دَانْتِي ).