مع الشروق : بلا سقف... لكنهم يتمسّكون بالأرض
تاريخ النشر : 19:47 - 2025/12/21
في غزة، حيث لا سقف إلا السماء، ولا أرض إلا الوحل، يعيش أطفال حفاة أقدامهم تلامس الماء البارد أكثر مما تلامس اللعب. فخيامهم تحوّلت إلى برك يقبعون تحتها بلا أغطية تقي من البرد القارس وملابس لا تكفي لتبعث بقليل من الدفء في أجساد صغيرة ترتجف لا من الخوف وحده، بل من الإهمال المقصود.
هناك ، لا يُقصف الإنسان وحده، بل تُقصف شروط الحياة نفسها، قطعة قطعة، وكل يوم جديد يأتي بحرب هادئة لا يسمعها إلا من يعايشها.
من هذا المشهد، يبدأ شكل آخر من الموت في غزة ، ففي الشتاء لا يحتاج الفناء دائما إلى صاروخ ، بل يكفي المطر الغزير، والريح الباردة، وخيمة مثقوبة، وصمت عربي ودولي محكم الإغلاق.
المطر الذي يُفترض أن يكون رحمة، انقلب شريكًا في الجريمة، والبرد الذي يُحتمل في بيوت الصامتين عن الظلم، تحوّل في المخيمات إلى أداة قتل بطيئة، بلا ضجيج ولا مساءلة ففي كل ليلة من هذا الشتاء تمر الا وتحمل معها وجوها ترتجف، وعينين تبحث عن دفء لا يصلها، وأمل صغير يتلاشى بين الوحل والبرد.
الأمر ليس طارئًا، فالشتاء في غزة ليس فصلًا مناخيًا فحسب، بل فصل سياسي بامتياز... وقرار ترك إنسان بلا غطاء، هو قرار مكتمل الأركان. ترك المخيمات تواجه الأمطار دون حماية، ليس عجزا تقنيا، بل اختيارا أخلاقيا فاضحا. فالقتل عندهم لا يكون دائمًا بالرصاص ، بل أحيانا بترك الجسد يبرد ، يتجمد حتى يستسلم، بينما العالم يدفئ لغته بالبيانات، ويكرر شعارات عن حقوق الإنسان، كأنها زينة على جدران باردة.
الأخطر من البرد نفسه، هو ما يسبقه ويليه: فالاعتياد على مشهد الخيام الغارقة يتحوّل إلى خبر عابر في تلفزات عربية ، وصورة الطفل المرتجف إلى تفصيل إضافي في نشرة مزدحمة.
هنا تبدأ الهزيمة الحقيقية، فحين يفقد المشهد قدرته على الإزعاج، ويصبح البرد الفلسطيني مألوفا ، وتتحول صورة الاب يبحث عن مكان آمن لأبنائه إلى روتين، ودموع الام إلى أرقام في تقارير لا تصلح للتأثير.
وفي قلب هذا الاعتياد، يستقرّ الصمت العالمي ليصبح أكثر قسوة من الشتاء ذاته في عواصم عربية دافئة ليلها ومضاءة مكاتبها ومن بين اصواتها خطابات تتحدث عن القيم والحقوق، لكنها عاجزة عن وقف النزيف، أو إرسال ما يقي طفلًا من ليلة قارسة.. من يترك إنسانًا بلا سقف في العراء، لا يملك حق التحدّث عن الإنسانية، مهما أتقن مفرداتها، ويصبح الكلام مجرد صدى فارغ أمام الحقائق الملموسة.
لكن رغم هذا الوجع كلّه، ثمّة حقيقة ترفض الغرق في أوحال غزة وبركها ، هم فعلا بلا سقف، لكنهم يتمسكون بالأرض ، لا لأنها مريحة، بل لأنها الاصل والحق ، فالطفل الذي يغوص في الوحل لا يفعل ذلك يأسًا، بل تشبثا بالمخيم رغم بؤسه ..هو إعلان صامت امام الكاميرا يقول أن الاقتلاع لن يكتمل، وأن الجذور ما زالت أعمق من كل هذا الطين وبواطن الارض.
غزة اليوم لا تطلب شفقة، بل مواجهة هذا العالم بسؤال بسيط ومحرج: أي إنسانية هذه التي تتجمّد أمام طفل يرتجف؟ وأي نظام دولي هذا الذي يسمح أن يكون البرد أداة قتل، والصمت العربي سياسة؟
في غزة، شتاء قارس ومؤلم… لكن القلوب تتدفأ دوما بالأرض.
راشد شعور
في غزة، حيث لا سقف إلا السماء، ولا أرض إلا الوحل، يعيش أطفال حفاة أقدامهم تلامس الماء البارد أكثر مما تلامس اللعب. فخيامهم تحوّلت إلى برك يقبعون تحتها بلا أغطية تقي من البرد القارس وملابس لا تكفي لتبعث بقليل من الدفء في أجساد صغيرة ترتجف لا من الخوف وحده، بل من الإهمال المقصود.
هناك ، لا يُقصف الإنسان وحده، بل تُقصف شروط الحياة نفسها، قطعة قطعة، وكل يوم جديد يأتي بحرب هادئة لا يسمعها إلا من يعايشها.
من هذا المشهد، يبدأ شكل آخر من الموت في غزة ، ففي الشتاء لا يحتاج الفناء دائما إلى صاروخ ، بل يكفي المطر الغزير، والريح الباردة، وخيمة مثقوبة، وصمت عربي ودولي محكم الإغلاق.
المطر الذي يُفترض أن يكون رحمة، انقلب شريكًا في الجريمة، والبرد الذي يُحتمل في بيوت الصامتين عن الظلم، تحوّل في المخيمات إلى أداة قتل بطيئة، بلا ضجيج ولا مساءلة ففي كل ليلة من هذا الشتاء تمر الا وتحمل معها وجوها ترتجف، وعينين تبحث عن دفء لا يصلها، وأمل صغير يتلاشى بين الوحل والبرد.
الأمر ليس طارئًا، فالشتاء في غزة ليس فصلًا مناخيًا فحسب، بل فصل سياسي بامتياز... وقرار ترك إنسان بلا غطاء، هو قرار مكتمل الأركان. ترك المخيمات تواجه الأمطار دون حماية، ليس عجزا تقنيا، بل اختيارا أخلاقيا فاضحا. فالقتل عندهم لا يكون دائمًا بالرصاص ، بل أحيانا بترك الجسد يبرد ، يتجمد حتى يستسلم، بينما العالم يدفئ لغته بالبيانات، ويكرر شعارات عن حقوق الإنسان، كأنها زينة على جدران باردة.
الأخطر من البرد نفسه، هو ما يسبقه ويليه: فالاعتياد على مشهد الخيام الغارقة يتحوّل إلى خبر عابر في تلفزات عربية ، وصورة الطفل المرتجف إلى تفصيل إضافي في نشرة مزدحمة.
هنا تبدأ الهزيمة الحقيقية، فحين يفقد المشهد قدرته على الإزعاج، ويصبح البرد الفلسطيني مألوفا ، وتتحول صورة الاب يبحث عن مكان آمن لأبنائه إلى روتين، ودموع الام إلى أرقام في تقارير لا تصلح للتأثير.
وفي قلب هذا الاعتياد، يستقرّ الصمت العالمي ليصبح أكثر قسوة من الشتاء ذاته في عواصم عربية دافئة ليلها ومضاءة مكاتبها ومن بين اصواتها خطابات تتحدث عن القيم والحقوق، لكنها عاجزة عن وقف النزيف، أو إرسال ما يقي طفلًا من ليلة قارسة.. من يترك إنسانًا بلا سقف في العراء، لا يملك حق التحدّث عن الإنسانية، مهما أتقن مفرداتها، ويصبح الكلام مجرد صدى فارغ أمام الحقائق الملموسة.
لكن رغم هذا الوجع كلّه، ثمّة حقيقة ترفض الغرق في أوحال غزة وبركها ، هم فعلا بلا سقف، لكنهم يتمسكون بالأرض ، لا لأنها مريحة، بل لأنها الاصل والحق ، فالطفل الذي يغوص في الوحل لا يفعل ذلك يأسًا، بل تشبثا بالمخيم رغم بؤسه ..هو إعلان صامت امام الكاميرا يقول أن الاقتلاع لن يكتمل، وأن الجذور ما زالت أعمق من كل هذا الطين وبواطن الارض.
غزة اليوم لا تطلب شفقة، بل مواجهة هذا العالم بسؤال بسيط ومحرج: أي إنسانية هذه التي تتجمّد أمام طفل يرتجف؟ وأي نظام دولي هذا الذي يسمح أن يكون البرد أداة قتل، والصمت العربي سياسة؟
في غزة، شتاء قارس ومؤلم… لكن القلوب تتدفأ دوما بالأرض.
راشد شعور