مع الشروق : صمتٌ دولي.. ومعاناة متواصلة

مع الشروق : صمتٌ دولي.. ومعاناة متواصلة

تاريخ النشر : 07:00 - 2025/12/18

مرة أخرى، يجد الشعب الفلسطيني الأبي نفسه محاصرا بين نار الاحتلال وقسوة التجاهل الدولي، فبعد اتفاقات متكرّرة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وبعد صور الاحتفاء الدبلوماسي بالتوقيعات والمواثيق، لم يتحرّك أحد لإلزام الكيان المحتل بتنفيذ أبسط تعهداته بالسماح بدخول الغذاء والدواء للمدنيين المحاصرين.
هذا الغياب التام لأي ضغط حقيقي على الاحتلال الصهيوني يطرح أسئلة أخلاقية وقانونية وسياسية، ويكشف هشاشة النظام الدولي وانحيازه المفضوح، فحين تتكرر التعهدات دون أي تنفيذ، تصبح الاتفاقات مجرّد أوراق تُرفع لالتقاط الصور، بينما يُترك الناس يموتون جوعا وعطشا ومرضا خلف الحصار الوحشي.
فمشاهد الأطفال الذين لا يجدون قوت يومهم، والمرضى الذين يموتون لغياب الدواء، نتيجة مباشرة لقرار سياسي فاشي يفرضه الكيان الغاصب، ونتيجة مباشرة كذلك لصمت دولي معبّر عن حجم التواطؤ، إذ أن المجتمع الدولي، الذي يسارع إلى فرض عقوبات آنية وفعالة في ملفات أخرى، يقف عاجزا ومتواطئا أمام سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها إسرائيل كجزء من أدوات الحرب.
فلا شكّ أن عدم وجود أي آلية إلزامية يفضح حقيقة التوازنات داخل مجلس الأمن والمؤسسات الدولية، فالفيتو الأمريكي جاهز دائما لشلّ أي قرار ملزم، والدول الكبرى تكتفي ببيانات «القلق» و»الشجب»، وهي كلمات فقدت قيمتها الأخلاقية منذ زمن، بل إن الأخطر من ذلك أن هذا الصمت لا يساهم فقط في استمرار الانتهاكات، بل يمنح الاحتلال شرعية ضمنية لسياساته، فحين لا يُحاسب الجاني، يُعتبر ما يقوم به ممارسة مقبولة، بل قابلة للتكرار، من منظور غربي داعم لممارسات الاحتلال.
ومن الثابت أن الالتزامات الإنسانية في حالات الحرب واضحة، واتفاقيات جنيف تنص صراحة على واجب السماح بمرور المساعدات للمدنيين، لكن ما نراه اليوم يؤكد أن القانون الدولي فقد قدرته على الردع، وفقدت الأمم المتحدة قدرتها على الإنفاذ، فإذا كان الكيان المحتل يستطيع أن يوقّع ثم يتنصل، ويتعهد ثم يمنع، دون أي عقاب أو ضغط دولي، فما قيمة القرارات والمواثيق؟ وما جدوى الحديث عن النظام الدولي وحماية المدنيين؟
إن ما يجري ليس مجرد إحباط لمبادرات إنسانية، بقدر ما هو عملية خنق جماعية لقطاع غزة، تُمارس تحت مرأى القوى الكبرى التي تصرّ على تفضيل الحسابات الجيوسياسية على حياة البشر، فحين يُحرَم شعب محاصر من الغذاء والدواء والوقود، ولا يتحرك المجتمع الدولي إلا ببيانات باهتة، فإن ذلك يعني أنّ الإنسان لم يعد محور الشرعية الدولية، بل المصالح في المقام الأول.
فيكفي اليوم مقارنة حجم الضغط الذي يُمارس على دول أخرى لأسباب أقل بكثير مع الصمت تجاه إسرائيل، كي ندرك حجم الازدواجية، فحين تُرسل المساعدات إلى مناطق نزاع أخرى في العالم خلال ساعات، تُمنع عن غزة وتُحتجز على المعابر لأيام وأسابيع، لتتحول معها العدالة الدولية إلى انتقائية، ويتحوّل القانون إلى أداة سياسية، ويصبح الفلسطيني الضحية الدائمة لميزان القوى المختل.
ولا يمكن مطلقا والحالة تلك ترك التنفيذ رهينا لحسن نية المحتل، بل على العالم الحر التحرك والضغط من أجل إنشاء آلية دولية ملزمة ومستقلة لإدخال المساعدات، فرض عقوبات على كل جهة تعرقل وصول الإغاثة، تفعيل المساءلة القانونية في المحاكم الدولية، وتوفير حماية للممرات الإنسانية عبر مراقبين دوليين.
فغياب أي تحرك دولي جدي ليس مجرد تقاعس، بل هو تواطؤ يساهم في تفاقم المأساة ويطيل أمد النزيف الإنساني، واليوم، يقف المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي، إما أن ينحاز للإنسان وللقانون، وإما أن يكرّس سابقة خطيرة تُشرعن الحصار والتجويع كسلاح حرب مقبول، والتاريخ في جميع الحالات لن يرحم.
هاشم بوعزيز

تعليقات الفيسبوك