مع الشروق: انتهى زمن إعطاء الدروس والمواعظ !

مع الشروق: انتهى زمن إعطاء الدروس والمواعظ !

تاريخ النشر : 07:02 - 2023/09/23

ما تزال قضية الهجرة غير الشرعية أو الهجرة اللاإنسانية تثير الكثير من اللغط.. وما تزال بعض الدوائر تركب هذا الملف لحشر أنوفها في الشأن التونسي واستباحة السيادة الوطنية من خلال الإصرار على إعطاء الدروس والمواعظ للدولة التونسية.


قضية المهاجرين غير الشرعيين القادمين إلى بلادنا من دول جنوب الصحراء عبر مسالك متشعبة وبواسطة شبكات وعصابات إجرامية دأبت على الاتجار بالبشر، هذه القضية دوّخت الدول الأوروبية باعتبارها مطلب موجات الهجرة.. لكن التضييقات الأوروبية وصعوبات عبور البحر إلى الضفة الأخرى حوّلت بلادنا من بلد عبور إلى بلد استقرار لفترة غالبا ما تطول.. وهو ما يشكل عبءًا انسانيا واجتماعيا على بلادنا التي لا تملك الامكانات المادية واللوجستية للتعاطي بشكل سلس ومرن مع آلاف المهاجرين حين يتكدسون في إحدى المدن ويتخذون منها مستقرا ومقاما..


من هنا تنشأ الحاجة إلى ابتكار مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف الحارق. مقاربة تكون جماعية، أوْ لا تكون.. وتتجه للعمل على واجهتين. واجهة أولى تركز على معالجة الأوضاع الناشئة عن تكدس المهاجرين الواصلين إلى تونس.. بما يقتضيه ذلك من إنشاء لمخيمات توفر الحدود الدنيا من الكرامة البشرية للمهاجرين.. كما توفر لهم ظروف إعاشة مقبولة.. وبذلك تتقاسم الدول المعنية بالملف وأساسا الدول الأوروبية المطلة على المتوسط في الضفة الأخرى الأعباء المادية وتشارك في تحمّل الأعباء السياسية لظاهرة كونية باتت تؤرق كل الدول بالنظر إلى انتشار مظاهر الفقر والبطالة والتهميش في أعداد متزايدة من الدول والشعوب.. وهو ما يعدّ عاملا مغذّيا للهجرة ودافعا إليها بحثا عن سبل العيش الكريم.


أما الواجهة الثانية فتخصّ التركيز على بلورة سياسات ومبادرات مبدعة وخلاّقة لبناء تنمية مستدامة في الدول الفقيرة، وفي دول جنوب الصحراء في هذه الحالة.. تنمية توفّر سبل العيش الكريم لملايين البشر الرازحين تحت خط الفقر.. وتمكّنهم من الحدود الدنيا للعيش الكريم بشكل يعطيهم أملا جديدا في حياة كريمة ويثبتهم في بلدانهم.. بعبارة أخرى إذا كان الغرب يريد أن يثني طوابير المهاجرين الحالمين بـ«جنة الرخاء» في الضفة الأخرى للمتوسط فما عليه إلا مساعدة الدول الافريقية المتخبطة في الفقر والتخلف والاحباط وكذلك دول الطوق البحري على إقامة «جنان للرخاء» تمكّن من تثبيت الأفارقة في مواطنهم وتثنيهم عن التطلع إلى ما وراء البحر..


وعند هذه النقطة تطل برأسها مسألة جوهرية.. مفادها أن الجهد الذي وجب على الدول الأوروبية القيام به والموارد المادية التي عليها تعبئتها ليست من قبيل المنّة.. بل هي من صميم مسؤولية هذه الدول التي جثمت على صدور الشعوب الافريقية لعقود طويلة ولهفت خيراتها وشفطت مواردها وثرواتها وفقّرت شعوبها وأغرقتها في الجهل والتخلف لتتمكن من إحكام السيطرة عليها وإطالة أمد احتلالها.. ولو أصغى قادة الغرب للأصوات الجديدة المنبعثة من القيادات الشابة للقارة ومن شعوب مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغيرها باتجاه إعلاء السيادة الوطنية وكنس مخلفات الحقبة الاستعمارية لو أصغوا لأدركوا أن افريقيا نهضت وأنها تطلب علاقات متوازنة، متكافئة.. وتطلب تعويضات عن الحقبة الاستعمارية ولو كان في شكل مشاريع تنموية تمكّن من تدارك ما فات..


ولئن كانت الدول الأوروبية تنزع حتى الآن للتنصّل من هذه المسؤولية والهروب منها من خلال لعبة الهرب إلى الأمام ولعبة تعويم السمك بإعطاء الدروس والمواعظ لدول مثل تونس.. فإن هذه الألاعيب لم تعد تنطلي على أحد.. وهي لا تنطلي بالتأكيد على تونس التي ترفض الخضوع لنوازع الهيمنة والتدخل في الشأن الداخلي ومصادرة سيادتها الوطنية.. وترفض أن تبقى رهينة مستكبرين يحنّون إلى عهود الاستعمار البغيض ولدى عصابات المتاجرين بالبشر وبأعضاء البشر.. وما على دول الضفة الأخرى للمتوسط إلا الإصغاء إلى  المقاربة التونسية إن كانت تريد ايجاد حلّ جذري ونهائي لهذه الظاهرة التي تؤرق الجميع.. والتي تستوجب معالجة جذورها وآثارها تكاتف جهود الجميع.


عبد الحميد الرياحي

تعليقات الفيسبوك