مع الشروق .. أسلحة صامتة... لحروب هادئة

مع الشروق .. أسلحة صامتة... لحروب هادئة

تاريخ النشر : 07:00 - 2024/05/30

«اجعل الشعب منشغلا، منشغلا، منشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للضيعة مع بقيّة الحيوانات» ...هذه الجملة الشّهيرة للمفكّر الأمريكي نعوم  تشومسكي وردت في كتابه " أسلحة صامتة لحروب هادئة" لا يمكن أن تمرّ على حالها باعتبارها  أداة للسيطرة على الشعوب والرّأي العام العالمي عبر الإعلام .
حتّى يعود  هذا الشعب إلى " الضيعة " وفق تشومسكي من الضروري إيجاد  أكثر من طريقة للإلهاء والإشغال عن  المشاكل الهامّة  وترويج المعلومات التافهة  والإبعاد عن نشر المعارف  و انتكاس الثقافة و عزل الطّبقات السّفلى عن العليا من خلال تفقير التعليم العمومي وجعله حكرا على المقتدرين وخلق  هوّة معرفيّة تجعل  التعليم المتطور غير متاح للأغلبية السّاحقة بما يحرّض على الانقطاع  المدرسي و يعمّم الجهل والأمية لتسهيل التحكّم في الشعوب واستعبادها.
لكنّ استراتيجيا الإلهاء غير كافية ، فالأمر يتطلّب  افتعال المشاكل وصناعتها و تحريض الشّعب على ردّة فعل معيّنة  هي في الحقيقة الهدف الذي يُراد تحقيقه من وراء ذلك مثل جعل ظاهرة العنف تتوسّع في المجتمع أو زرع الإرهاب  وجعله  يطالب بنفسه بقوانين أمنية على حساب حرّيته، أو خلق  أزمة مالية  تجعله يقبل بتراجع  الخدمات العمومية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
طبعا الأمر لا يقف عند هذا الحدّ في هذه "الحروب الهادئة"    فالقرارات التي من شأنها أن تؤجّج الشّارع وتحرّك الثورات عند تطبيقها دفعة واحدة ، تتحقق بسياسة المراحل والتدرّج حتّى يقبل بها المواطن ويتأقلم معها ، مثل البطالة ، وغلاء الأسعار وعدم  القدرة على توفير العيش الكريم ، وعدم التمكّن مثلا من الحصول على عمل دائم والقبول بالتعاقد والعمل الهشّ ، وهي نتائج تتحقّق عبر اختيارات اقتصادية واجتماعية  معينة  تعطي نتائجها على امتداد عشر سنوات أي "عشريّة "من الزمن.
هذا ما يقود إلى  تحمّل القرارات الموجعة  لأجل أن يكون الغد أفضل ، بجعل  المواطن  يعيش على التضحية لأجل المستقبل بدل التضحية الفورية والحينية التي قد تفجّر السلم الاجتماعي  ، فيأمل هذا الأخير  في المستقبل ويعدّل حياته على المؤجّل حتّى يتعوّد على فكرة التغيير ويستسلم لقبولها  مع مرور الوقت.
داخل دوّامة هذه الحرب يستعمل الإشهار  كسلاح صامت ، بخطاب ورسائل ساذجة يقول تشومسكي إنّها "تقترب من مستوى التخلّف الذهني"  يعتمد على مغالطة المتلقّي  ويخاطبه كما لو كان طفلا  لتجريده من الحسّ النقدي ودفعه إلى التقبّل دون نقاش. هذا ما يفسّر طبعا طوفان الإشهار الموغل في الإيقاع والرّقص وتداخل الأصوات وهَسْترة المشهد في الومضات  الإشهارية.
هذا الخطاب "المعوق"   يسهّل استحسان الرداءة  فيتحوّل  الرّائع  داخل المجموعة  إلى "غبيّ، همجيّ وجاهل"  وتغيب القدوة و يأفل النموذج الفاعل ، ويغرق المواطن في التعاسة  ويتعاظم شعوره بالإحباط  والعجز ويتّهم نفسه بالتخبّط بلا جدوى ويترسّخ  لديه الشعور بالذنب  لنقص في الذكاء والقدرات  والجهد. 
مقابل هذه العزلة الفردية والتخبّط في المجهول واليأس يُزجّ  بالفرد  في عالم مبهر من التطوّرات العلمية و التكنولوجية  المذهلة  لديها قدرة على  معرفته أكثر ممّا يعرف نفسه، والتحكّم فيه والسيطرة عليه من خلالها بتوجيه اختياراته حتّى في الأكل والحب، إنّها تلك الدّولة "الاكتئابيّة" وذلك المواطن المتخبّط ... وتلك هي المجتمعات التي هندستها أمريكا وصنعتها على المقاس بأسلحة صامتة.
وحيدة المي

تعليقات الفيسبوك