مجموعة " جدير بالحياة " للشاعرة فوزية العكرمي (3/3) نصوص… تتغنّى بالحياة

مجموعة " جدير بالحياة " للشاعرة فوزية العكرمي (3/3) نصوص… تتغنّى بالحياة

تاريخ النشر : 15:21 - 2021/02/14

نشرنا امس الجزء الثاني من هذه الدراسة التي تناولت اختيار الشاعرة فوزية العكرمي كتابة القصيدة المختزلة و المكثّفة، و الّتي امتلكت ناصية فنّياتها و أبدعت في صياغتها، مع محاولة تطويرها. واليوم ننشر الجزء الثالث والأخير:
  ...و أرى أن الاقتصار على عتبات المجموعة مع الإشارة إلى القصيدة الأولى و الأخيرة فيها و التّعريج بعد ذلك على القصيدة التي اختارت الشّاعرة وضعها في الغلاف الأخير للكتاب، أمر فيه الكثير من التجنّي على بقية القصائد. لذلك أرى أنه من العدل، و حتّى تكتمل الصّورة، الإشارة و لو بالتلميح إلى المقاطع و القصائد التي شعرت أنها تساهم في توضيح البعض من خصوصيات الكتابة الشّعرية لدى فوزية العكرمي، و هي الصّوت البارز في السّنوات الأخيرة.
       و في أولى الاختيارات، وجدتني أتوقّف عند المقطع الأخير من القصيدة الخامسة عشرة في المجموعة و الذي حمل عنوان: « لو كان… » و جاء فيه:
       ( لَو كانَ بالإِمْكانِ أنْ أحْيا 
               لَأَحْرَقْتُ عمرِي 
                … وَفِيكَ اِنْبَعَثْت ( ص : 25) 
      و يلاحظ معي ألقارئ أنّ هذا المقطع و رغم اختزال عدد عباراته، كان مفعمًا بالمعاني. حيث شعرت أن فوزية العكرمي و رغم اقتصارها على هذا العدد القليل من الحروف و العبارات تمكّنت ببراعة الشّعراء من تبليغ عملية الانصهار قصد إدراك الحياة. 
       و حتّى تكتمل الصورة في ذهن ألقارئ لهذا الاختزال المحكم، و التّكثيف الدّقيق للمعاني، من خلال الصّورة الشّعرية، دون الوقوع في التّبذير اللّغوي، أرى أنّه من المفيد الإشارة إلى القصيدة الثّامنة عشرة و التي حملت عنوان : « أنا و الطريق » و صاغت حروفها الشّاعرة كما يلي : 
       ( أُؤَجّل طَرِيقِي 
          مَا دَامت خطْوتِي ناقِصة 
                أؤجّل فرَحِي 
          مادامت أحزانِي راسية 
                 أُؤَجّل عُمْرِي 
     مادُمتَ الموْتَ الذي أرتضِيهِ لِحياتِي الباقية) ( ص : 29)
     ففوزية العكرمي تختزل المعاني، و تنتقي العبارات القادرة على دفع القارئ لتلمّس الصّورة الشّعرية التي تبثّها في قصائدها، و بذلك تشركه في اختيار المقاصد التي يرتئيها. فالشّاعرة تدفعنا بهذا الأسلوب إلى القطع مع المتلقّي السّلبي، لتساهم في تكوين قارئ قادر على التقاط الأجوبة من خلال الصّورة الشّعرية للأجوبة المخزّنة في أعماقنا، و هنا تجدني أشير إلى الجملة الأولى في الإهداء و الّذي توقّفت عنده في بداية هذه القراءة.
       و مواصلة في التقاط بعض المقاطع و القصائد الّتي أشعر أنّها تُساهم في تقريب ملامح الكتابة لدى فوزية العكرمي، أرى أنّه من المفيد الإشارة إلى القصيدة الثانية و العشرين، و التي كانت مختزلة، و حملت عنوان : « بَيْنَ قَوْسَيْنِ » و جاءت كما يلي: 
       ( هَلْ قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ لِنَقْبَعَ بَيْنَ قَوْسَيْنِ غَرِيبَيْنِ!
                     نَتَرَصَّد فَارِسًا يَأْتِي إِلَيْنَا 
                       … يَنْفُض عَنَّا بَقِيَّةَ الكَلَامِ)  ( ص : 34).
       و نلاحظ أنّ الشّاعرة، ترفض الخمول و تعترف بالتقصير في التعبير عمّا يجب قوله، لذلك نجدها تسعى في جميع قصائدها إلى التقاط الأفضل من بقية الكلام. لكنّها اختارت أسلوب التّلميح دون الوقوع في الخطابة و المباشرتية. 
       نلمس هذا مثلًا في القصيد الذي حمل عنوان : « تضحية » حيث تقول: 
       ( ذَابَتْ مَقَالِيعِي فِي صَيْدِ أَشْوَاقِكُمْ 
                 وَ مَا زِلْتُ أُحْسِنُ الظَّنَّ بِكُمْ 
                  حَتَّى أَصَابَتْنِي أَشْوَاكُكُمْ… )  ( ص : 35).
       كذلك جاءت القصيدة التي حملت عنوان : « حَدِيثُ المِرْآةِ » و الذي كانت معانيه مربكة: 
       ( كُلَّمَا رَأَتْنِي المِرْآةُ 
          أَدَارَتْ ظَهْرَهَا 
         كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تُرِيَنِي 
         حَجْمَ الطَّعَنَاتِ)  ( ص : 41). 
      و لأنّ فوزية العكرمي اعتمدت على التّكثيف و الاختزال في كتابة نصّها يشعر القارىء دومًا، حتّى و إن لم تخطّط الشّاعرة لذلك، بأنه المقصود، بل و المستهدف من خلال كل المواقف الّتي تتضمّنها قصائدها. لذلك يجد نفسه مورّطًا بمحض إرادته في متابعة سلاسة الأشعار و عذوبتها، باحثًا عن التّأويلات الممكنة لصورها الموحية. 
       و مثل هذا الإحساس الذي يصيب المتلقي زمن اكتشاف الصور و العبارات، أشعر أنه غالبًا ما يدفعه إلى إعادة القراءة مع التركيز و التدقيق متمنيًا في كل مرة حسن الفهم. و أكاد أجزم في هذا المجال، بأنّ كلّ قراءة جديدة توفّر تأويلًا مختلفًا للمعاني، و التي قد لا تكون خطرت على ذهن فوزية العكرمي نفسها. 
       و بسبب كلّ ذلك، تجدني أعترف بنجاح الشّاعرة في توريط القارئ و دفعه إلى التّحليق مع الصور التي بثتها في نصوصها. الأمر الذي يساهم بقسط وافر في إعلاء درجة الشّعور بالمتعة التي تصيبه أثناء القراءة و بعدها، و هذا يُحسب للشّاعرة الّتي أظهرت قدرة فائقة على امتلاك ناصية فنيات الكتابة الشّعرية، و الابداعية بصفة عامّة.
       و حسبي في هذه القراءة لفت نظر المختصين و الباحثين و عشاق الشعر بصفة عامة إلى أعمال الشاعرة فوزية العكرمي التي أرى أنّها تستحق الاهتمام، لما تتميز بها نصوصها من كثافة في المعاني و دقة في البلاغة، رغم اعتمادها على أسلوب الاختزال و التكثيف في الصّورة الشّعرية و العبارة المنتقاة إلى درجة التعويل على الادهاش في مواقع كثيرة. لذلك أكاد أجزم أن قارئ أشعارها ستحصل له لا محالة، المتعة و الإضافة.
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

مدة 16 سنة دأبت دار الثقافة بمدينة مساكن على تخليد ذكرى المبدع المرحوم علي مصباح من خلال تنظيم مه
07:00 - 2024/05/17
لئن مازالت المفاوضات متواصلة بخصوص عروض الدورة 58 لمهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين، إلا أن الثاب
07:00 - 2024/05/17
نعت وزارة الشؤون الثقافية المطربة سلمى سعادة التي وافتها المنية اليوم الخميس 16 ماي 2024.
18:41 - 2024/05/16
تفتح وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية جميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة والمتاحف المف
14:41 - 2024/05/16
يحتضن المركب الثقافي أسد بن الفرات بالقيروان أيّام 17، 18 و 19 ماي 2024 فعاليّات الملتقى الوطني ل
13:23 - 2024/05/16
" أنا من هنا. وهنا أنا. دويّ أبي. أنا من هنا وأنا هنا. وأنا أنا. َهنا هنا. إني أنا.
10:32 - 2024/05/16
صدرت عن دار الأدب الوجيز الفتيّة المجموعة الثانية للأديبة ابنة القيروان الممثلة والقاصة نورا الور
10:28 - 2024/05/16
هو ديواني الخامس وطفلي الذي علّمته الركض في البراري كالوعول معطّر الأنفاس قابضا على جمر السّنين..
10:28 - 2024/05/16