ماهر جدّا ورؤوف أكثر من اللازم
تاريخ النشر : 11:27 - 2023/08/03
حنجرة صافية بمساحة صوتية كبيرة، أذن متغذّية بالنغمات التراثية، معارف موسيقية موظّفة بذوق وذكاء، حضور ركحي وتفاعل رائق مع الجمهور.
مبهر هذا الفتى الوسيم القادم من ربوع مدنين الصادحة بأهازيج عبيد ڨبنطن ومواويل البدو وطبّال جربة (وزكّارتها) وإيقاعات الطرابلسية، وساحر بصفاء صوته وعذوبته وبتحكّمه في والانتقالات الصوتية والمقامية وبانضباطه الإيقاعي وانسجامه مع جوقة العازفين... رؤوف ماهر يجعلك تحتار في تصنيف فنّه. هل هو شعبي راقص أم هو تراثي بدوي أم هو موسيقى متقنة. فنّه من النوع الذي يدعوك أحيانا إلى التركيز معه والانصات لما فيه من براعة صوتية. هو في بعض مواطنه طربي وفي كثير منها راقص صاخب, ولعلّ في هذا خصوصيته وطرافته. فلا هجانة في الأمر بل هو مزيج مستطاب ومحبب للأذن والذوق.
أغانيه تكاد تدور في فلك واحد: الأم والأخت والعمّة والخالة ولمّة العايلة في حوش الجد. وربّما اتّسعت لتشمل العشيرة والوَِطْنْ (بمعنى الموطن) والوَطَن (تونس)... أغراض عادة ما تكون مثقلة بمعاني الإجلال وصور المفاخرة والتمجيد الذاتي، وهو نهج دأبت عليه مدوّنة الشعر الشعبي في الجهة إلى الحدّ الذي ينهك هذه الأغراض ويطبع الشعر فيها بنوع من الأخلاقوية والوعظية المعلّبة. أحيّي في رؤوف ماهر تعفّفه عن الإسفاف وبحثه عن تأصيل فنّه في الموروث الثقافي الشعبي والتصاقه بجهته وأهله ولعلّ ذلك من مفاتيح تميّزه. لكن أدعوه إلى الحذر من إعادة إنتاج السائد وإعادة تدوير (رسكلة) القديم. انظر كيف نجحت صنديدة أكثر من أغانيه الأخرى. ذلك أنّ غرض الأخت غير مستهلك مثل غرض الأم والعشيرة والوَطْنْ.
ليس معناه أن نكفّ عن التغني بالأم. ولكن الإبداع والابتكار في هذا الغرض صار أكثر صعوبة وتحديا.
أخشى على رؤوف أن يتحنّط في الفضيلة المعلّبة. وأدعوه إلى الانفتاح على أغراض أخرى والتخلّص ممّا يمكن أن يتحوّل إلى هوس بالطهورية المضمونية. يكفي أن ينفتح على شعراء آخرين مثل الجليدي العويني على سبيل الذكر لا الحصر ليلامس مواضيع آنية وحارقة كالغربة والجفاف والحرب والجوع. فالفن في أحد شروطه مجازفة وتجاسر على التابوهات. l'art est transgression.
هناك لدى رؤوف ماهر حرص على الإتقان بمعناه الهندسي لا الفني. الإتقان الذي يحسب حسابا لكلّ كبيرة وصغيرة إلى درجة تحدّ من هامش المفاجأة وتخنق العفوية الضرورية للفن. فالمهندس والفنان لا يرسمان المنزل بنفس الطريقة. جاءني هذا الانطباع من اختيارات رؤوف الشعرية وتأكّد لديّ بعد مشاهدة فيديو كليباته.
يبث رؤوف ماهر من حوله وهو على الرّكح طاقة إيجابية ويبعث في مشاهده الاستحسان والارتياح. ولكن لا داعي إلى الإسراف في الاعتراف بفضل الجمهور والأهل والشعب الطيّب. تحكّم في جرعة الثناء على الجمهور والاعتراف بفضله وفي جرعة الدّعوة إلى البرّ بالوالدين والوفاء للأصل والأهل. فذلك طريق المستسهلين الذين يعوّضون فشلهم الفني بخطاب التملّق والنوايا الحسنة والعواطف ب"البالة". وما أبعدك عن هذا الصنف. أولئك كالصعاليك والمنحرفين، يؤذون والديهم ويقبّلون جباههم ولا يقسمون إلاّ بشرف الوالدة. أمّا أنت ففنّك وموهبتك يدافعان عنك ويبلّغان مشاعرك ويتكلّمان باسمك... فأنت اخترت طريق التميّز وفرض الإعجاب وافتكاك الاعتراف بفنّك وموهبتك، وليس استجداءه.
الخصال الفنية لرؤوف ماهر ترشّحه لأن يكون نجما على الساحة العربية وسفيرا للفن التونسي خارج تونس شرط أن يجد آلة إنتاجية تحضنه من حيث التنفيذ الموسيقي والاختيارات الشعرية والترويج والاتصال. فهو نبع فني فيّاض لم يبرز بعد إلاّ النزر القليل القليل ممّا يختزنه في جوفه.

حنجرة صافية بمساحة صوتية كبيرة، أذن متغذّية بالنغمات التراثية، معارف موسيقية موظّفة بذوق وذكاء، حضور ركحي وتفاعل رائق مع الجمهور.
مبهر هذا الفتى الوسيم القادم من ربوع مدنين الصادحة بأهازيج عبيد ڨبنطن ومواويل البدو وطبّال جربة (وزكّارتها) وإيقاعات الطرابلسية، وساحر بصفاء صوته وعذوبته وبتحكّمه في والانتقالات الصوتية والمقامية وبانضباطه الإيقاعي وانسجامه مع جوقة العازفين... رؤوف ماهر يجعلك تحتار في تصنيف فنّه. هل هو شعبي راقص أم هو تراثي بدوي أم هو موسيقى متقنة. فنّه من النوع الذي يدعوك أحيانا إلى التركيز معه والانصات لما فيه من براعة صوتية. هو في بعض مواطنه طربي وفي كثير منها راقص صاخب, ولعلّ في هذا خصوصيته وطرافته. فلا هجانة في الأمر بل هو مزيج مستطاب ومحبب للأذن والذوق.
أغانيه تكاد تدور في فلك واحد: الأم والأخت والعمّة والخالة ولمّة العايلة في حوش الجد. وربّما اتّسعت لتشمل العشيرة والوَِطْنْ (بمعنى الموطن) والوَطَن (تونس)... أغراض عادة ما تكون مثقلة بمعاني الإجلال وصور المفاخرة والتمجيد الذاتي، وهو نهج دأبت عليه مدوّنة الشعر الشعبي في الجهة إلى الحدّ الذي ينهك هذه الأغراض ويطبع الشعر فيها بنوع من الأخلاقوية والوعظية المعلّبة. أحيّي في رؤوف ماهر تعفّفه عن الإسفاف وبحثه عن تأصيل فنّه في الموروث الثقافي الشعبي والتصاقه بجهته وأهله ولعلّ ذلك من مفاتيح تميّزه. لكن أدعوه إلى الحذر من إعادة إنتاج السائد وإعادة تدوير (رسكلة) القديم. انظر كيف نجحت صنديدة أكثر من أغانيه الأخرى. ذلك أنّ غرض الأخت غير مستهلك مثل غرض الأم والعشيرة والوَطْنْ.
ليس معناه أن نكفّ عن التغني بالأم. ولكن الإبداع والابتكار في هذا الغرض صار أكثر صعوبة وتحديا.
أخشى على رؤوف أن يتحنّط في الفضيلة المعلّبة. وأدعوه إلى الانفتاح على أغراض أخرى والتخلّص ممّا يمكن أن يتحوّل إلى هوس بالطهورية المضمونية. يكفي أن ينفتح على شعراء آخرين مثل الجليدي العويني على سبيل الذكر لا الحصر ليلامس مواضيع آنية وحارقة كالغربة والجفاف والحرب والجوع. فالفن في أحد شروطه مجازفة وتجاسر على التابوهات. l'art est transgression.
هناك لدى رؤوف ماهر حرص على الإتقان بمعناه الهندسي لا الفني. الإتقان الذي يحسب حسابا لكلّ كبيرة وصغيرة إلى درجة تحدّ من هامش المفاجأة وتخنق العفوية الضرورية للفن. فالمهندس والفنان لا يرسمان المنزل بنفس الطريقة. جاءني هذا الانطباع من اختيارات رؤوف الشعرية وتأكّد لديّ بعد مشاهدة فيديو كليباته.
يبث رؤوف ماهر من حوله وهو على الرّكح طاقة إيجابية ويبعث في مشاهده الاستحسان والارتياح. ولكن لا داعي إلى الإسراف في الاعتراف بفضل الجمهور والأهل والشعب الطيّب. تحكّم في جرعة الثناء على الجمهور والاعتراف بفضله وفي جرعة الدّعوة إلى البرّ بالوالدين والوفاء للأصل والأهل. فذلك طريق المستسهلين الذين يعوّضون فشلهم الفني بخطاب التملّق والنوايا الحسنة والعواطف ب"البالة". وما أبعدك عن هذا الصنف. أولئك كالصعاليك والمنحرفين، يؤذون والديهم ويقبّلون جباههم ولا يقسمون إلاّ بشرف الوالدة. أمّا أنت ففنّك وموهبتك يدافعان عنك ويبلّغان مشاعرك ويتكلّمان باسمك... فأنت اخترت طريق التميّز وفرض الإعجاب وافتكاك الاعتراف بفنّك وموهبتك، وليس استجداءه.
الخصال الفنية لرؤوف ماهر ترشّحه لأن يكون نجما على الساحة العربية وسفيرا للفن التونسي خارج تونس شرط أن يجد آلة إنتاجية تحضنه من حيث التنفيذ الموسيقي والاختيارات الشعرية والترويج والاتصال. فهو نبع فني فيّاض لم يبرز بعد إلاّ النزر القليل القليل ممّا يختزنه في جوفه.