الروح التربوية.. التربية أهم من الخبز، حكمة اجتماعية، حكمة تونس

الروح التربوية.. التربية أهم من الخبز، حكمة اجتماعية، حكمة تونس

تاريخ النشر : 22:17 - 2023/09/16


هل يمكن لمجتمعنا أن يكتسب روحا تربوية وحكمة اجتماعية؟ كيف ذلك وما معنى ذلك قبلا؟ 
من منا يشك في ان الروح المعنوية سبيل النجاح، ومن فينا يشك في أن الروح الإنسانية أهم خصال البشر، ومن ذا الذي ينفي ان الروح الوطنية أو الروح المهنية أو الروح الفنية أو الروح العلمية أو الروح الكدحية أو الروح الرياضية... كلها قيم عليا وخصال فضلى وروح عالية ومفاتيح نافعة في كل مناحي الحياة؟

لهذا نتطلع إلى هبة تونسية شعبية في الاهتمام بكل مراحل إعادة بناء نظام تربوي منظومي جديد. فكل هذا يدخل في الروح التربوية وهي حكمة اجتماعية عملية عليا. ويضاف إلى ذلك ان الروح التربوية المطلوبة هي ببساطة عقلية تربوية ونفس تربوية وعقل تربوي وسلوك تربوي وإرادة تربوية. وهي بأكثر بساطة ممكنة التلخيص في هذا المبدأ:
تعامل مع هذا الجهد الوطني للإصلاح والبناء على انه جهد كل حياتك وعلى انه مرتبط فعلا بكل مستقبلك. وتعامل مع قضية التربية والتعليم على انها أم القضايا، وهي فعلا أم القضايا، ومهما كان تعاملك، هي كذلك أم القضايا إيجابا وسلبا. وعامل أبناء الآخرين كما لو كانوا أبناءك، أو تعامل مع أبناء الآخرين كما لو كنت تتعامل مع أبنائك. وافعل معهم بقدر المستطاع ما تفعل مع ابنك وأرجو لهم ما ترجوه لابنك وأرجو لابنك ما ترجوه لهم لا قولا بل فعلا بقدر ما تستطيع. فهذه هي مصلحة ابنك قبل أن تكون مصلحة أبناء غيرك. وهذه هي قيمة القيم الباقية، بل الخالدة.

هذه الروح التربوية حكمة ومعرفة حكمية وفكرة حكمية. فإنك أنت وابنك في نفس المجتمع وانك نتيجة مجتمع وانه سوف يكون نتيجة مجتمع موجود وآخر يبنى لك وله وهو الذي سيشارك حتما، إيجابا أو سلبا، في بناء المجتمع وربما في بناء مجتمع جديد. وهذه مسؤولية كبرى، إيجابا وسلبا. وتكون الحكمة الاجتماعية والمجتمعية إذن من أوكد مهام أي منا. قد يقولون أهذه مدينة فاضلة، وليكن، أليس ذلك أفضل من الاستسلام لرذيلة الافساد والامتناع عن الإصلاح والبناء! أليس ذلك أفضل من رمي أبناء هذا البلد المظلوم الأبرياء في حلبة تقاتل بعنوان تنافس هذا مع ذاك وافتكاك حق هذا ضد ذاك وتوفير الظروف لهذا ونزعها من ذاك... وهكذا. فهل هذا نجاح وهل هذا انجاز أم عكسه تماما كما نرى! ألست تعاني مرارة ما يكتسب في المدرسة يضيع في الطريق إلى المدرسة وما لا يضيع في الطريق إلى البيت يضيع في البيت وما لا يضيع في البيت يضيع في المدرسة وفي محيط المدرسة أو يضيع في المعهد أو في الجامعة أو في المجتمع أو في الحياة!
وبصرف النظر عن مقدرات الدولة المادية والمعنوية وعن إمكانيات الشعب الآن ومستقبلا وعن حجم عناصر القاعدة العلمية مستقبلا وتصنيف البلاد وإنتاجها ومكانتها وترتيبها وأهدافها واستراتيجياتها، كيف السبيل إلى مستقبل أفضل إذا لم نكن جزءا منه بما لدينا!

إن من كان وليا كان أمينا ليس فقط على نفسه وعلى عائلته وإنما كان أمينا على الإنسان الذي يبني وعلى الإنسانية كيف ستكون. ومن كان مدرسا لن يفكر إلا في غبطة تلاميذه يقول أحد الفلاسفة، فهو لن يرى في نفسه بالنهاية إلا قاطرة للعلم أبوابها في كل البيوت ومن أبواب كل هذه البيوت جميعها تنطلق القاطرة أو لا تنطلق. 

وإن انعدام المساواة المدرسية في المعارف والمهارات الموروثة من الأوساط الثقافية والامتياز الثقافي العائلي الذي يظنه هذا أو ذاك ويحسبه أمانا، والانحدار الطبقي والاجتماعي لهذا وذاك والقدرات المكتسبة خارج المدرسة كل حسب محيطه لهذا وذاك، تصبح كلها صواعق تفجير للمجتمع لا حوافز تقدم وتطور اذا تحولت إلى عوائق مجتمعية ولم نعالجها. وإن مجتمعنا فعلا ليس بخير وهو الذي يعاني من عدة صراعات من هذا النوع ومن غيره تؤذي الجميع. هذا ولم تكن المساواة الشكلية أبدا ولن تكون، حتى إذا حصلت، كما يرى مفكر الاجتماع بيير بورديو، لم تكن عدالة واقعية بل زادت من تفكك المجتمع ولم تغير شيئا في الوظائف الاجتماعية ولم تغير الهرمية الاجتماعية ولا النظام الاجتماعي أبدا نحو الأفضل. ولا شي أبدا سيتحسن دون قناعة بالمساواة أمام العقل وهي أساس كل حياة جماعية واحدة ومشتركة ودون قناعة مشتركة بإنصاف العقول والعدالة بين العقول وهذا أساس كل حياة لكل شعب في كل وطن. وكيف بنا نصبوا ونرنوا ونتطلع ونرجوا أريحية الحياة، ولا نقول لا السعادة ولا الرفاه ولا الجودة ولا غير ذلك، دون خير عام! وكل ذلك في الحقيقة متعلق بقضية العمل ومستقبله وقضية العلاقات الاجتماعية والمهنية والخاصة والعامة... حتى لا ننسى.

دعك من الاختبارات والمقاييس في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية والمعرفية ودعك حتى من كل فلسفات التربية وأصولها وفروعها، ودعك من الوسائط الإعلامية والتكنولوجية ومن التعليم النشط وغير النشط، فإن الأساس هو كون التربية فعل تربية وتعليم والتعليم فعل تربية وتعليم والتكوين فعل وإطار تربية وتعليم فكيف سيكون هذا الفعل وفعله من دون توعية مبكرة بكل هذا وبكل الآفات المعروفة لاحقا! 

سيسهل خداع الشباب وتسهل الفريسة كلما تخلينا وكلما استعجلنا. ولن تكون الدراسة نافعة في الحياة كلما تخلينا وكلما استعجلنا. وإن الحضارة نفسها، كما قال مالك بن نبي، "لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر" فالحضارة "إبداع وليست تقليدا واستسلاما وتبعية".
ولهذا بالذات لا بد علينا من تربية وطنية وتربية فكرية وتربية معنوية وتربية تاريخية وتربية نفسية واجتماعية وفنية وتربية حضارية متكاملة من اللغة إلى العلم والشؤون الدينية والعلاقات الأخلاقية. وكل هذا يتطلب بشكل غير مسبوق تعبءة وطنية روحية شاملة تحقق سيادة العقول ومجد الأمم ويكون التوازن والسلام والاحترام والنجاح عند الفرد وفي المجتمع وفي العلاقات الإنسانية، وخذ الأمر عن الابيقورية أو عن كونفشيوس أو عن فلاسفة الإسلام وفلاسفة العرب أو عن أهم فلاسفة الغرب والشرق والجنوب، النتيجة واحدة. 
نعم القراءة معجزة والكتابة أيضا معجزة وكم من صاحب معجزة بهذا المعنى نكل طويلا بالبشر حتى اهتز عرش الرحمان. ولذا فإن الفكر التربوي الإجتماعي والنفسي والعقلي والفلسفي والأخلاقي الحق خير عام ومشترك يمكن أن تكتسب ثقافته العامة من طرف الجميع وهذا من أوكد مهام بناء نظام تربوي وتعليمي وتكويني جديد. وهمة كل أصحاب الرسالة لاحقا. وهي نزعة تربوية واتجاه تربوي وسياسة تربوية عامة مستقبلية بالمقام الأخير مطروحة علينا جميعا.
ان التربية أهم من الخبز والثياب من سقراط إلى برتراند راسل، والفكرة أعظم قيمة معنوية واعتبارية لأي مجد إنساني وهي التي تتحدى أي امتياز وتتفوق عليه. فليكن اذن بناء نظام جديد للتربية والتعليم في بلادنا هو تحديدا ما يمكن أن يسميه أي مفكر منصف يوما ما، إذا نجحنا طبعا، هذه حكمة تونس؛ إنها حكمة تونس.
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

إن الهدف الرئيسي من تقديم هذه المعطيات المجمعة حول الخسائر الاقتصادية والمالية للعدو من عدة مصادر
00:12 - 2024/05/03
إن آخر ما يتبادر إلى الذهن تحليل ما يجري في الجامعات الأمريكية.
21:21 - 2024/04/27
قياسنا هنا 7 أكتوبر وطوفان الأقصى واليوم الماءتان.
23:48 - 2024/04/23
تعقيبا وتعليقا على الهجوم الإيراني المتوقع على إسرائيل كردة فعل على الهجوم الصهيوني الذي أودى باس
07:00 - 2024/04/22
تزامن عيد الفطر هذه السنة في غزة مع دخول طوفان الأقصى شهره السابع وما خلّفه العدوان الصهيوني من د
07:00 - 2024/04/22