الأستاذة كاهنة عبّاس تكتب لـ"الشروق أون لاين": فيلم "ولدي".. عندما تتحوَّل العلاقة بين الأب والأبن إلى "حرب"!
تاريخ النشر : 09:53 - 2018/12/10
كلّ شيء عاديّ في فيلم "ولدي" ، الدّيكور ، الشقّة ، الشّخصيات ، القصّة ، الأحداث ، إلى حدّ التّشابه مع الأفلام الوثائقيّة فنيّا وتقنيّا .
فقد اختار المخرج "محمد بن عطية "أن يصوّر لنا جانبا من الواقع بروتينيّته وفقره الثقافيّ والروحيّ والجماليّ والعاطفيّ ، ومعنى ذلك، أنّ الفيلم لم ينطلق لا من تفاصيل توحي بوجود صراع بين الشخصيات، ولا من حدث مميّز ،ولا من بطل يتمتّع بخصال استثنائيّة قد تؤدّي به إمّا إلى نهاية دراميّة أو سعيدة .
فلا شيء يميّز الأب "رياض السعدي" الّذي يشتغل بإحدى مقاطع الحجر، سوى أنّه أحيل على التّقاعد (أداء الممثل محمد الظريف )،ولا شيء يميّز زوجته "نازلي" المشتغلة بالتدريس، سوى أنّها تعمل بمكثر فتنتقل خارج تونس العاصمة أسبوعيّا (أداء الممثلة منى الماجري)،وكذلك الشّأن بالنسبة لابنهما سامي ، الّذي كان ينتظر اجتياز امتحان الباكالوريا (أداء الممثل زكريا بن عياد).
إذ تعكس المشاهد الأولى للفيلم حياة بسيطة لزوجين تجاوز الخمسين من العمر،هادئين منسجمين، يسكنان إحدى الشقق الواقعة بأحواز العاصمة ، لا همّ لهما ولا شاغل سوى الاعتناء بابنهما الوحيد "سامي" .
لذلك كانت أحداثه بطيئة متتابعة ، تدور جلّها حول الأزمة الصحيّة والنفسيّة للابن سامي لتحدث شرخا طفيفا في الجّو الروتينيّ العاديّ الّذي تعيشه العائلة .
ولم تخرج الأعراض المرضيّة لسامي عمّا هو المعهود في سنّه ووضعه العائليّ والاجتماعيّ ،فلا الصّداع النصفيّ ولا القلق النفسيّ ولا تعكّر مزاجه ،توحي بأنّ أزمته خطيرة مستفحلة، تنبئ بمرض نفسيّ مزمن أو بميل إلى التطرّف الدينيّ أو الإيديولوجيّ أو بوجود اختلال لديه، قابل للتطوّر والتحوّل ، إذ هي وليدة مرحلة المراهقة الّتي يمرّ بها وكذلك الظّرف الّذي يجتازه ، ألا وهو التأهّب لاجتياز امتحان الباكلوريا .
ولا يلمس المتفرج أيّ ميل لدى الشخصيات الثلاث الأساسيّة إلى تجاوز هذا الواقع أو السّمو به أو تصعيده أو مساءلته أو حتى رفضه، بطرح أسئلة فلسفيّة أو بالتعبير عن حيرة روحيّة أو وجوديّة، ولا نلمح أيّ موقف معين من الدين من قبلها.
علاقة رياض بزوجته نازلي ، علاقة فاترة ذبلت مع زمن ، فحين أهداها وردة ،سألته كيف عنّ له أن يفعل ذلك ، برّر أنّ الفكرة خطرت بباله بمحض الصّدفة .
العلاقة الوحيدة المتينة رغم الصّمت الذي يحوم حولها، هي علاقة رياض بسامي الزّاخرة بالخوف والحبّ ،فرياض لا يعيش إلاّ من خلال ابنه، يشاركه قلقه وحيرته وضياعه إلى حدّ الالتحام به .
وفي الحقيقة، يعود تعلّق الأب بابنه إلى عدّة أسباب من بينها : تقدمّه في السنّ وإحساسه بالشيخوخة ، توقّفه عن العمل وإحالته على التقاعد ، إمكانياته الماديّة المحدودة ، مكانته الاجتماعيّة الّتي لا تمنحه سلطة معيّنة ولا امتيازات ، فلم يبق له من هدف يعيش من أجله سوى أن يفلح في تربية ابنه .
فكان لا بدّ للقطيعة أن تحدث بينهما ، لأنّ سامي اختار أن لا يتبع مسيرة والده و أن لا يقتدي به، لذلك سيغادر البيت قبل اجتياز امتحان الباكلوريا ببضعة أيام، للجهاد في سوريا ،ولن يفلح رياض بعد التحاق به ،في إقناعه بالعودة إلى تونس ،فقد باءت جميع مجهوداته بالفشل لأنّ سامي يبحث عن بطولة وهميّة .
من وجهة نظر المخرج، تبدو ظاهرة التطرّف الدينيّ أكثر تعقيدا مما نتصّور ،لأنّها قد تصيب العائلات المتماسكة اجتماعيّة والطّبقة المتوسّطة تحديدا ، لا يعود ظهورها إلى سبب أساسيّ بل جملة من الأسباب المتضافرة .أولّها فقر الحياة اليوميّة للتونسيّ وتجرّدها من الحريّة ومن الإبداع ومن الحبّ ، أما مظاهر الحداثة الّتي نراها في الفيلم ،من عمل للمرأة وتنقلها وتحمّلها المسؤوليّة ، وتمتّع الشّباب ببعض الحريّة من رقص ولقاءات ،فإنّها لا تمنحه أجوبة عن أسئلته الوجوديّة ،ولا المساحة الكافية لتحقيق الذّات، إذ تبدو تلك الحداثة ذو طابع استهلاكيّ ،لا تعترف بالإنسان ولا تمنحه لا السعادة ولا الرفاهيّة.
لقد راهن فيلم "ولدي" على أمرين : الصّمت والتّصوير الدقيق لبعض الجزئيات ، فأهمّ الأحاسيس الّتي تسكن الشّخصيات الأساسيّة لم تفصح عنها :مثل الألم ، المرض ، الحبّ ، القلق ، الغربة ،الوحدة ،فكان لا بدّ من التّركيز على بعض المشاهد حتّى تصل إلى المتفرّج ( نظرات رياض تجاه سامي ، فتور نازلي ، قلق سامي وصمته وحزنه ) وهو ما جعل الفيلم رغم تجرّده من الجماليات على مستوى الصّورة ، يحظى بعدة جوائز وهي : "جائزة أفضل ممثل" في مهرجان "جونة "السينمائي ،"الجائزة الكبرى" للدورة 36 من مهرجان ثقافات المتوسط بمدينة "باستيا" في جنوب فرنسا ،جائزة "أحسن تعبير فنيّ" في مهرجان روما للأفلام المتوسطيّة .
ومع ذلك، توجد حلقات عديدة مفقودة في الفيلم ،تتعلّق بانضمام سامي إلى الجماعات الإرهابيّة لتنظيم "داعش" وتبنّيه للفكر الديني المتطرّف، قد يبرّرها حسب رأينا ،اختيار المخرج محمد عطية كما صرّح بذلك ،طرح مسألة الإرهاب من زاوية معيّنة تجنّبه الخوض في المسألتين الدينيّة والثقافيّة ،وهو ما يفسّر أهميّة الصّمت في مدار أحداث الفيلم. لذلك لم يكن للدّين حضور ظاهر، لأنّه كان المنفذ الوحيد للأزمة وبينما أستندت الأمومة دورا عرضيّا .
ويبقى السّؤال المطروح هو الآتي : كيف يمكن للفرد أن يحقّق ذاته في مجتمعاتنا،هل من خلال علاقة البنوّة بالنسبة للأب ،أم في اقتداء الابن بوالده ؟
و تحيلنا هذه الاشكالية إلى بنية المجتمع التقليديّ، فعلاقة البنوّة القويّة كما يصوّرها الفيلم، لم تعد تستجيب لمتطلّبات المرحلة التاريخيّة الرّاهنة،(كما جاء على لسان إحدى شخصيات الفيلم "الشّيخ التركيّ" الّذي استقبل " رياض" لإيوائه إثر سفره إلى تركيا)، لحاجة الأبناء إلى الاستقلاليّة التّامة في علاقتهم بالآباء.
فهل يكمن الحلّ في التأسيس "لبنوّة اجتماعيّة" كما جاء في خاتمة الفيلم، قصد حماية المجتمع من التّفكك؟ لم عجز كلّ من رياض و سامي ( الأب والابن )عن تحقيق سعادته الشخصيّة ،هل للفرد وجود خارج المجموعة؟
ويبقى السؤال الأخير مطروحا .

كلّ شيء عاديّ في فيلم "ولدي" ، الدّيكور ، الشقّة ، الشّخصيات ، القصّة ، الأحداث ، إلى حدّ التّشابه مع الأفلام الوثائقيّة فنيّا وتقنيّا .
فقد اختار المخرج "محمد بن عطية "أن يصوّر لنا جانبا من الواقع بروتينيّته وفقره الثقافيّ والروحيّ والجماليّ والعاطفيّ ، ومعنى ذلك، أنّ الفيلم لم ينطلق لا من تفاصيل توحي بوجود صراع بين الشخصيات، ولا من حدث مميّز ،ولا من بطل يتمتّع بخصال استثنائيّة قد تؤدّي به إمّا إلى نهاية دراميّة أو سعيدة .
فلا شيء يميّز الأب "رياض السعدي" الّذي يشتغل بإحدى مقاطع الحجر، سوى أنّه أحيل على التّقاعد (أداء الممثل محمد الظريف )،ولا شيء يميّز زوجته "نازلي" المشتغلة بالتدريس، سوى أنّها تعمل بمكثر فتنتقل خارج تونس العاصمة أسبوعيّا (أداء الممثلة منى الماجري)،وكذلك الشّأن بالنسبة لابنهما سامي ، الّذي كان ينتظر اجتياز امتحان الباكالوريا (أداء الممثل زكريا بن عياد).
إذ تعكس المشاهد الأولى للفيلم حياة بسيطة لزوجين تجاوز الخمسين من العمر،هادئين منسجمين، يسكنان إحدى الشقق الواقعة بأحواز العاصمة ، لا همّ لهما ولا شاغل سوى الاعتناء بابنهما الوحيد "سامي" .
لذلك كانت أحداثه بطيئة متتابعة ، تدور جلّها حول الأزمة الصحيّة والنفسيّة للابن سامي لتحدث شرخا طفيفا في الجّو الروتينيّ العاديّ الّذي تعيشه العائلة .
ولم تخرج الأعراض المرضيّة لسامي عمّا هو المعهود في سنّه ووضعه العائليّ والاجتماعيّ ،فلا الصّداع النصفيّ ولا القلق النفسيّ ولا تعكّر مزاجه ،توحي بأنّ أزمته خطيرة مستفحلة، تنبئ بمرض نفسيّ مزمن أو بميل إلى التطرّف الدينيّ أو الإيديولوجيّ أو بوجود اختلال لديه، قابل للتطوّر والتحوّل ، إذ هي وليدة مرحلة المراهقة الّتي يمرّ بها وكذلك الظّرف الّذي يجتازه ، ألا وهو التأهّب لاجتياز امتحان الباكلوريا .
ولا يلمس المتفرج أيّ ميل لدى الشخصيات الثلاث الأساسيّة إلى تجاوز هذا الواقع أو السّمو به أو تصعيده أو مساءلته أو حتى رفضه، بطرح أسئلة فلسفيّة أو بالتعبير عن حيرة روحيّة أو وجوديّة، ولا نلمح أيّ موقف معين من الدين من قبلها.
علاقة رياض بزوجته نازلي ، علاقة فاترة ذبلت مع زمن ، فحين أهداها وردة ،سألته كيف عنّ له أن يفعل ذلك ، برّر أنّ الفكرة خطرت بباله بمحض الصّدفة .
العلاقة الوحيدة المتينة رغم الصّمت الذي يحوم حولها، هي علاقة رياض بسامي الزّاخرة بالخوف والحبّ ،فرياض لا يعيش إلاّ من خلال ابنه، يشاركه قلقه وحيرته وضياعه إلى حدّ الالتحام به .
وفي الحقيقة، يعود تعلّق الأب بابنه إلى عدّة أسباب من بينها : تقدمّه في السنّ وإحساسه بالشيخوخة ، توقّفه عن العمل وإحالته على التقاعد ، إمكانياته الماديّة المحدودة ، مكانته الاجتماعيّة الّتي لا تمنحه سلطة معيّنة ولا امتيازات ، فلم يبق له من هدف يعيش من أجله سوى أن يفلح في تربية ابنه .
فكان لا بدّ للقطيعة أن تحدث بينهما ، لأنّ سامي اختار أن لا يتبع مسيرة والده و أن لا يقتدي به، لذلك سيغادر البيت قبل اجتياز امتحان الباكلوريا ببضعة أيام، للجهاد في سوريا ،ولن يفلح رياض بعد التحاق به ،في إقناعه بالعودة إلى تونس ،فقد باءت جميع مجهوداته بالفشل لأنّ سامي يبحث عن بطولة وهميّة .
من وجهة نظر المخرج، تبدو ظاهرة التطرّف الدينيّ أكثر تعقيدا مما نتصّور ،لأنّها قد تصيب العائلات المتماسكة اجتماعيّة والطّبقة المتوسّطة تحديدا ، لا يعود ظهورها إلى سبب أساسيّ بل جملة من الأسباب المتضافرة .أولّها فقر الحياة اليوميّة للتونسيّ وتجرّدها من الحريّة ومن الإبداع ومن الحبّ ، أما مظاهر الحداثة الّتي نراها في الفيلم ،من عمل للمرأة وتنقلها وتحمّلها المسؤوليّة ، وتمتّع الشّباب ببعض الحريّة من رقص ولقاءات ،فإنّها لا تمنحه أجوبة عن أسئلته الوجوديّة ،ولا المساحة الكافية لتحقيق الذّات، إذ تبدو تلك الحداثة ذو طابع استهلاكيّ ،لا تعترف بالإنسان ولا تمنحه لا السعادة ولا الرفاهيّة.
لقد راهن فيلم "ولدي" على أمرين : الصّمت والتّصوير الدقيق لبعض الجزئيات ، فأهمّ الأحاسيس الّتي تسكن الشّخصيات الأساسيّة لم تفصح عنها :مثل الألم ، المرض ، الحبّ ، القلق ، الغربة ،الوحدة ،فكان لا بدّ من التّركيز على بعض المشاهد حتّى تصل إلى المتفرّج ( نظرات رياض تجاه سامي ، فتور نازلي ، قلق سامي وصمته وحزنه ) وهو ما جعل الفيلم رغم تجرّده من الجماليات على مستوى الصّورة ، يحظى بعدة جوائز وهي : "جائزة أفضل ممثل" في مهرجان "جونة "السينمائي ،"الجائزة الكبرى" للدورة 36 من مهرجان ثقافات المتوسط بمدينة "باستيا" في جنوب فرنسا ،جائزة "أحسن تعبير فنيّ" في مهرجان روما للأفلام المتوسطيّة .
ومع ذلك، توجد حلقات عديدة مفقودة في الفيلم ،تتعلّق بانضمام سامي إلى الجماعات الإرهابيّة لتنظيم "داعش" وتبنّيه للفكر الديني المتطرّف، قد يبرّرها حسب رأينا ،اختيار المخرج محمد عطية كما صرّح بذلك ،طرح مسألة الإرهاب من زاوية معيّنة تجنّبه الخوض في المسألتين الدينيّة والثقافيّة ،وهو ما يفسّر أهميّة الصّمت في مدار أحداث الفيلم. لذلك لم يكن للدّين حضور ظاهر، لأنّه كان المنفذ الوحيد للأزمة وبينما أستندت الأمومة دورا عرضيّا .
ويبقى السّؤال المطروح هو الآتي : كيف يمكن للفرد أن يحقّق ذاته في مجتمعاتنا،هل من خلال علاقة البنوّة بالنسبة للأب ،أم في اقتداء الابن بوالده ؟
و تحيلنا هذه الاشكالية إلى بنية المجتمع التقليديّ، فعلاقة البنوّة القويّة كما يصوّرها الفيلم، لم تعد تستجيب لمتطلّبات المرحلة التاريخيّة الرّاهنة،(كما جاء على لسان إحدى شخصيات الفيلم "الشّيخ التركيّ" الّذي استقبل " رياض" لإيوائه إثر سفره إلى تركيا)، لحاجة الأبناء إلى الاستقلاليّة التّامة في علاقتهم بالآباء.
فهل يكمن الحلّ في التأسيس "لبنوّة اجتماعيّة" كما جاء في خاتمة الفيلم، قصد حماية المجتمع من التّفكك؟ لم عجز كلّ من رياض و سامي ( الأب والابن )عن تحقيق سعادته الشخصيّة ،هل للفرد وجود خارج المجموعة؟
ويبقى السؤال الأخير مطروحا .