وجهي لا يشبهني!! للحبيب مرموش تيار الوعي في الكتابة الروائية

وجهي لا يشبهني!! للحبيب مرموش تيار الوعي في الكتابة الروائية

تاريخ النشر : 18:36 - 2021/03/14


نشرنا امس الجزء الثاني من هذه الدراسة وقد لاحظ خلالها الكاتب يوسف عبد العاطي انه لم يعثر في قصص المجموعة على ما يبرّر إقدام الكاتب على اجترار نصّه الذي سبق نشره في جنسمختلف، وهو القادر على صياغة نصوص جديدة لتضمينها في استهلالات هذه المذكّرات... واليوم ننشر الجزء الثالث و الاخير من هذه الدراسة :
         و مواصلة في البحث عن الصّورة المثاليّة للكاتب الّتي نطمح جميعًا إلى  إدراكها، نقرأ في الفقرة الأخيرة من نفس القصّة: 
   ( أنا كاتب كبير … شهير … و ستكرّمني لجنة التحكيم، دون أن أمجّدها أو  أتزلّف لها لأنني أكره التّسلّق و التّملّق و أمقت الكتّاب الانتهازيين، لكن ما الذي كان يتعيّن على كاتب ماكر، مريب، أن يفعل بي …  غير الافتراء عليّ و الضّحك على قرّائه المخلصين …) ( ص : 25)      و أمام هذا التّوصيف الذي ذكره الحبيب المرموش في قصّته للكاتب الكبير  و المشهور، تجدني أتساءل عن مدى مشروعية ذلك مع القيمة الابداعية و الفنية  التي جاءت عليها القصص بعيدًا عن مثل هذه الأحكام القيميّة، حتّى و إن صحّت. لأنّ النّصوص الخالدة هي بالضّرورة تلك المفعمة بالأحاسيس و الابداع الفنّي سواء كان كاتبها كبيرا أو  صغيرًا، و هل هو مغمور أو مشهور. لأنّ الكبير يبدأ  الانتاج صغيرًا بالضّرورة، كما أنّه يكون مغمورًا ليصبح بعد ذلك مشهورًا.


  و لأنّ المواضيع اختلفت في القصص أرى أنه من المفيد التّوقّف عند الفقرة  الأولى و الأخيرة في القصّة الأخيرة في المجموعة « مارلان » لشعوري بأنّ ذلك سيساعد القارىء على تلمّس ملامح الكتابة الأدبية بصفة عامة لدى الحبيب  المرموش. كما أرى أنّ هذا الاختيار قد يساهم بسلالسة في رسم أهمّ ملامح الفنّيات و  المناخات التي تسكن الكاتب و تحرّك ملكة الابداع فيه، ساعيًا من خلال كلّ ذلك  إلى العرض الأبلغ لقصص هذه المجموعة: «وجهي لا يشبهني!! » متمنّيًّا تحريك شهيّة القارئ للاطّلاع عليها و الوقوف  عند أهمّ تأويلاتها. 
      جاءت الفقرة الأولى في القصّة الأخيرة « مارلان » مفعمة بالأخبار و المواقف، حيث انطلق السّرد: 
 ( يتسلّق رشيد جبل الحياة بصعوبة حاملا أثقال الكون على كتفيه و هو يسير في  مرتفع شائك و طويل، و من حين لآخر تلسعه سياط الماضي، تذكّره بأيّام     الكدّ و الجدّ و الشّهادة الجامعيّة المرميّة على الرفّ من سنين، لكنّ الصّرخة  المكبوتة الّتي تدوّي في أعماقه سرعان ما يتكسّر صداها على رصيف الحياة ليعيده إلى و اقعه من جديد…). ( ص : 133)
  و يلاحظ معي القارئ أنّ هذه الجملة الطّويلة نسبيًّا جاءت لتختزل حالة جيل  كامل من الشّباب عصفت به السّنين و شلّت حماسه وأحبطت أحلامه بسبب الواقع الّذي كبّل طوحه. و أشعر أنّ الجملة الأخيرة كانت صادمة و مريرة و مشلّة لكلّ  أمل. فبعد تعطّل إقلاع الطّائرة واستنفار المسؤولين و المخبرين و السّفير و غيرهم نقرأ هذه الجملة الأخيرة: 
     ( و ردّت مارلان بعد أن غضّت من بصرها و هي تمسّح رأسها في صدر  سيّدتها و تبصبص بذيلها الأشقر الجميل:  « مياوْ…مياااو… مياوْووو…)  ( ص :143)
  بعد التّعرّف على أنّ حالة الاستنفار القصوى التي حصلت في المطار كانت  بسبب ضياع قطّة، يشعر القارئ بمرارة عميقة تصيبه جرّاء هذا الواقع الذي تنكّر لرشيد صاحب الشّهادة الجامعية المرميّة على الرفّ من  سنين بينما تتعطّل حركة الطّيران بسبب تأخّرة القطّة عن الظّهور. فرغم أنّ ذلك ليس عادلًا إلاّ أنّه تصوير  بليغ و دقيق لواقع مخز. و الأكيد أنّ الاطّلاع على أحداث القصّة سيقدّم لنا  مبرّرات و شواهد أكثر مرارة للواقع المعاش. 
  و لمزيد توضيح أهمّ مشاغل الكتابة و فنّياتها لدى الحبيب المرموش أرى أنه من المفيد التّوقّف عند أوّل و آخر جملة من قصّة « وجهي لايشبهني!! » و هو نفس  عنوان الكتاب، علّني أتمكّن من خلال ذلك التّوصّل إلى التّعريف ببعض المشاغل و المواضيع التي تناولها الكاتب فيقصصه.
  انطلقت القصّة بتصدير جاء فيه:( نشر الرّبيع العربيّ ظلاله في كلّ مكان. لماذا لا يدخل هذا الرّبيع البديع بيتي!؟) ثمّ ينطلق السّردهكذا: 
  ( قال هذه الكلمات بصوت مرح متفائل و هو يفتح نافذة غرفته على مصراعيها ليستقبل نسمات الحرّية قبل أن يترنّح في فراشه من جديد،و يتقلّب ذات اليمين و ذات الشّمال باحثا عن حكاية جديدة يحبّر بها أوراقه التي بين يديه بعد أن استمع إلى نشرة أخبار الصّباح و ما فعلتهالتّحوّلات السّريعة في العالم العربي. )  ( ص : 26 )
    و ما يلاحظ في هذه الجملة، هو أساسًا تلك المسحة من التّفاؤل التي غمرت  شخصية الرّاوي، و ذلك على عكس إنتاجات الكاتب الأخرى والّتي تتّسم في أغلبها بالقتامة و النّقد الصّارم لهذا الواقع الذي نحياه دون أن نكون السّبب في تردّي أوضاعه. أمّا في هذا الاستهلالفنلمس انبلاج فجر الأمل داخله. 
  غير أنّ الجملة الأخيرة في نفس القصّة جاءت محبطة و أعادت راوي قصص  المرموش إلى طبيعته التي تعوّدناه. حيث يقول: 
  ( و هو يقبع مهزوما في فراشه، مسبلا يديه على ساقيه الممدودتين أمامه، حدّق مليّا في المرآة المقابلة باحثا عن وجهه و « لوكه »الجديد… عن ربيع شبابه و مجده التّليد… لكن لم يلح له طيف أحلامه الغزيرة من قريب أو بعيد، فصاح عاليا في أعماقه:
  «أين وجهي؟ أين شكلي؟! هذا الوجه لا أعرفه … هذا الوجه لا يشبهني … هذا الشّكل ليس لي!!!) (ص: 44)
  فهل أصابت الكاتب غربة أعادته إلى تلمّس المرارة بعد مسحة الأمل التي ركبته في استهلال القصّة، و لذلك ارتدّ مهزومًا إلى درجة نكرانهلذاته؟ أم إنّ الواقع  لا يحتمل الخضوع للتّفاؤل حتّى و إن ادّعينا الفرح؟ أم إنّ طبيعة الرّاوي في  قصص المرموش، لا تحتمل ارتداءه لمسحةالأمل.
  و أظنّ أنّ المقارنة بين الفقرة الأولى و الأخيرة في هذه القصّة « وجهي لا  يشبهني!!» تعطينا صورة معبّرة عن مناخات المواضيع والفنّيات الّتي تُميّز  الكتابة السّردية في هذه المجموعة و لدى الحبيب المرموش تحديدًا. كما أرى أنّ  كلّ الاختيارات الّتي استدللت بها في هذهالقراءة جاءت لتؤكّد صدق الكاتب في  نصّ إهدائه و الّذي قال فيه: ( إلى كلّ المهمّشين في الأرض …). 
  و أرى أنه من المفيد زيادة الاستشهاد ببعض الجمل المختارة من القصص، علّني أتوصّل من خلال ذلك تقريب ملامح و أهداف الكتابةالأدبية لدى المرموش. و من هذه الجمل نقرأ مثلًا ( لا بدّ لمن سرق نور الحكاية أن يحترق بنارها…) (ص: 20)
   و رغم أنّ هذه القصّة جاءت في سياق مختلف داخل السّرد، إلّا أنّني أشعر بأنّها قادرة على بلورة رؤية الكاتب للحكاية. و أرى أنّ مثلهذه الأحكام القطعية لا يمكننا أبدًا التّسليم بصدقيتها، حتّى و إن ادّعت الحكمة و الشّمولية ؛ لكنّها مع ذلك تساعد القارىء على تلمّس رؤيةالكاتب لفنّيات القصّ.
   و لإدراك هذه الغاية النّبيلة التي لا يمنحها النّجاح غير الاطّلاع على قصص  المجموعة، سأكتفي لاحقًا  باختيار جمل شعرت أنّها كانتقطعية و معبّرة عن رأي الكاتب رغم إسقاطها على الشّخصيات الحدثيّة. من ذلك مثلًا:( لماذا تبدأ الآلام عندما يعتقد الانسان أنه تخلص منحياة الشظف و العناء و هو يحلم بالرّاحة و السّكينة، فيما تبقّى من سنوات العداب؟…) ( ص: 46)
     ثمّ نقرأ في موضع لاحق: ( هكذا أنا دائما متردّد في كلّ شيء يخصّني… يخصّ حياتي العميقة إلّا في صالح البلاد و العباد و رصدأعداء الوطن الغدّارين… فأنا كائن شهم…صلب… شديد… لا ألين.) (ص:60)
    كذلك نقرأ:( …هوايته المشي و التفكير في المجهول…في المستقبل البعيد… أمّا الآن فهوايته المشي و تذكّر الماضي العنيد…) ( ص : 113)
    و الاستشهاد الأخير هو :( … لماذا يجيء الإنسان من عدم الحلم و يمضي إلى عدم الوجود؟ لماذا؟) ( ص :126)
   و سوف أكتفي بهذا الأمثلة رغم تنوّعها و تعدّدها داخل القصص، متمنّيا أن  أكون قد وُفّقت في تحديد الهيكل العام لكتابات المرموش. كما أتمنى أن أكون قد  حرّكت فضول القراء للاطّلاع على نصوص المجموعة لشعوري بأنّها من  الأعمال القابلة لتأويلات مختلفة.    و لأنّ المجموعة صدرت عن دار الاتحاد للنّشر و التّوزيع، أشير إلى انفراط كلّ أوراق الكتاب بعد الانتهاء من القراءة بسبب سوء ضمّهابطريقة احترافية من  طرف المطبعة و الاكتفاء بتجميع كرّاسات الكتاب باللّصق فقط، و هو خطأ أتمنى تداركه لاحقًا. و هذا لا ينقص من قيمةالقصص. و الأكيد أنّ جميع القرّاء  سيتأكّدون من صحّة هذا الرّأي بعد مطالعتها.      
     
      


 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

إن الهدف الرئيسي من تقديم هذه المعطيات المجمعة حول الخسائر الاقتصادية والمالية للعدو من عدة مصادر
00:12 - 2024/05/03
إن آخر ما يتبادر إلى الذهن تحليل ما يجري في الجامعات الأمريكية.
21:21 - 2024/04/27
قياسنا هنا 7 أكتوبر وطوفان الأقصى واليوم الماءتان.
23:48 - 2024/04/23
تعقيبا وتعليقا على الهجوم الإيراني المتوقع على إسرائيل كردة فعل على الهجوم الصهيوني الذي أودى باس
07:00 - 2024/04/22
تزامن عيد الفطر هذه السنة في غزة مع دخول طوفان الأقصى شهره السابع وما خلّفه العدوان الصهيوني من د
07:00 - 2024/04/22