مع الشروق : أوروبا...والسقوط الاستراتيجي

مع الشروق : أوروبا...والسقوط الاستراتيجي

تاريخ النشر : 07:00 - 2025/12/11

لم تعد العلاقة بين ضفتي الأطلسي تخضع لتلك القواعد الدبلوماسية الكلاسيكية التي سادت لعقود بعد الحرب العالمية الثانية، فعُهدة دونالد ترامب الثانية، حوّلت النظرة الأمريكية تجاه «القارة العجوز» من نظرة «الشريك الاستراتيجي المدلل» إلى نظرة «المنافس التجاري الشرس» و»العبء الأمني المكلف».
فالمتأمل في التصريحات الصادرة عن واشنطن يدرك بوضوح أن ترامب لا يرى في الاتحاد الأوروبي كتلة سياسية حليفة بقدر ما يراه تكتّلا اقتصاديا صُمّم لاستغلال الولايات المتحدة، وهو ما يضع العواصم الأوروبية أمام اختبار وجودي غير مسبوق.
ولعل الزاوية الأولى والأكثر بروزا في رؤية ترامب لأوروبا هي الزاوية الأمنية، وتحديدا عبر بوابة حلف الناتو، حيث لم يعد الرئيس الأمريكي يكتفي بالتلميح، بل بات يتعامل بمنطق «الجباية» الصريح، إذ ينظر إلى المظلة النووية والأمنية الأمريكية في أوروبا ليس كواجب تفرضه الزعامة العالمية، بل كخدمة مدفوعة الأجر يجب أن تسدد فواتيرها الدول المستفيدة، فبالنسبة له، أوروبا قارة غنية تعتمد على دافع الضرائب الأمريكي لحمايتها من الدب الروسي، وهي معادلة يراها غير مستدامة، مما دفع الأوروبيين قسرا للحديث منذ مدة عن «الاستقلال الاستراتيجي» بجدية لم نعهدها من قبل.
وإذا كان الأمن هو العصا، فإن التجارة هي الجزرة التي سحبها ترامب من فم الأوروبيين، حيث ينظر ساكن البيت الأبيض إلى الاتحاد الأوروبي بعين الريبة الاقتصادية، واصفا إياه في أكثر من مناسبة بأنه «أسوأ من الصين» لكن بابتسامة لطيفة تخفي ما وراءها، فالعجز التجاري لصالح أوروبا يمثل لترامب إهانة شخصية وسياسية لشعار «أمريكا أولا»، من وجهة نظره.
فقد بات جليّا أن ترامب لا يؤمن بالتكتلات متعددة الأطراف، بقدر ما يفضّل التعامل مع الدول فرادى لفرض شروطه، مما يضع وحدة الاتحاد الأوروبي في مأزق، فالرسالة القادمة من واشنطن واضحة ومفادها أن السوق الأمريكية لم تعد مفتوحة بلا مقابل، والرفاهية الأوروبية القائمة على التصدير لأمريكا باتت مهددة بالتآكل.
ولعلّ أخطر ما في مقاربة ترامب هو تجاوزه لمؤسسات بروكسل التقليدية ومغازلته للتيارات اليمينية والشعبوية الصاعدة في أوروبا، وهو سلوك يُقرأ في الدوائر الدبلوماسية على أنه محاولة لتقويض المشروع الأوروبي من الداخل. 
فترامب لا يرى في الاتحاد الأوروبي القوي مصلحة أمريكية، بل يفضل أوروبا مفككة من الدول القومية التي يسهل التفاوض معها والضغط عليها، فهو يتعامل ببرود مع القادة الليبراليين التقليديين، بينما يفرش السجاد الأحمر لمن يشاركونه العداء للمهاجرين والعولمة والمؤسسات الدولية.
ومن الثابت أن ما يفعله ترامب منذ مدة مع الشريك الأوروبي «السابق» يمكن وصفه بالتحول البنيوي في السياسة الخارجية الأمريكية الذي يعبر عن تيار واسع من الناخبين الأمريكيين الذين سئموا لعب دور «الشرطي والممول» للعالم، فأوروبا اليوم، نتيجة «صدمة ترامب»، تقف أمام حقيقتها كقارة شاخت اقتصاديا واتكلت عسكريا، وما نظرة الرئيس الأمريكي لأوروبا إلا فرصة أخيرة أمام القارة العجوز لتستفيق من سباتها حتى لا تكون مجرد ورقة تفاوض في الصراع الأكبر بين واشنطن وبكين.
هاشم بوعزيز

تعليقات الفيسبوك