مع الشروق .. شبكات التواصل ترسّخ ثقافة الاستعراض والقهر الاجتماعيّ

مع الشروق .. شبكات التواصل ترسّخ ثقافة الاستعراض والقهر الاجتماعيّ

تاريخ النشر : 07:00 - 2024/06/22

لم تعد تُقبل فكرة التفاوت الاجتماعيّ بعد حدوث  الانفجار الرقميّ وانفتاح الدّول على بعضها ، وانصهارها  في رقعة  جغرافية  فرضها العالم الافتراضيّ غير المُعترف بحدود ولا بسقف أو جدران.
في هذا العالم المفتوح ، القائم على الإبهار والتأثير والإدهاش  باتت  الشاشات المضيئة  كاشفة لحيوات الآخرين هنا وهناك، فلا خصوصية  للفرد ولا هُم يحزنون  ، داخل البلد المعنيّ ومُدنه المتجاورة والمتباعدة  ، أو في الدّول الجارة والأخرى الواقعة في قاع الكرة الأرضية  ، حيث صارت  الحياة الخاصة بيوتا من زجاج.
بمثل هذه الحدود الذائبة ،  اقترب الكلّ من الكلّ ، وأصبح الأفراد يتحرّكون في حفل جماعيّ أقرب إلى الجنون، كلّ واحد فيه يغني على ليلاه ، وكلّ جرّة باتت بما فيها ترشح . غير أنّه في عمق هذا الانعزال في الفردانية والتمحور حول الذات ، ودوران كل واحد في مداره يعرض أفراحه وأتراحه ومشاغله وشواغله وانشغالاته واهتماماته إلى أدقّ تفاصيله الخاصة وحتّى الحميمة.
في عُمق كلّ هذا ما زالت عين هذا الملفوف على نفسه- أي الفرد المنغمس في متاهة الافتراضيّ -  ملقاة على الآخر يسعى إلى تقليده ، والنّسج على منواله  والكيل بمكيالين ليُثبت أنه الأجدر والأفضل. فلا يرى إلا ما بين يدي غيره ولا يرضى أو يَقْنَع بما لديه.
هذه المفارقة العجيبة  بين الانغلاق على الذات والعين على الآخر ، لم تأت فقط بهذا الاستنساخ والتشابه شبه المطلق في الممارسات والسلوكات وردود الأفعال بين الأفراد  والعِناد والمُمَاراة ، بل  أدْخلت الجّميع في  مقارنات و فتحت الأعين على ما في يد الغير ، وهذا طبعا إمْا أن يُثير النقمة أو يدفع إلى العمل بالمثل . وفي الحالتين نحن بذلك نواجه حالة سلوكية مضطربة ومؤثّرة اجتماعيا  لا يمكن حسمها إلا بالنّضج الاجتماعيّ  و امتلاك القدرة على تحصين النّفس من التأثّر السلبيّ، و أساسا الوعي بأنّ ما يعرض لا يمثّل حقيقة الأشخاص بل هو في جزء كبير منه يُبنى على الوهم .
إنّ ما تشهده شبكات التواصل الاجتماعي من استعراض  مُفرط ، الوهميّ  منه و الحقيقيّ ،  يقدّم الجميع في جنّة  ويَردم تلك الفوارق الاجتماعية ، التي يستبطنها  الفرد  في داخله ويسعى  إلى إخفاء واقعه المزري و تجميل الصورة القبيحة وتعويضها بصورة وهمية   لأجل  التناغم مع الآخر، ويُبنى بذلك التواصل  الاجتماعي على قاعدة   استعراض جماعيّ  يمارسه الكلّ على الكلّ.
من هنا يذهب في اعتقاد الجميع أنّ الجنّة متاحة للجميع ، ويشعر  من لم ينخرط في صناعة الكذب الاجتماعيّ و يُفلح في  تزوير  واقعه  بالتقاط صوره هنا وهناك وحضوره في الأماكن الراقية والايهام بحياة مرفّهة  وإن كان عن طريق   الانسلاخ عن واقعه   بمختلف المغالطات،  يشعر أن الدّنيا ظلمته ، وأنه ضحية القهر الاجتماعيّ ، وأنّ هذا البلد الذي لم يستمتع  بخيراته مثل الآخرين لا يستحق احترامه  وحبّه والمحافظة عليه بل  حتّى البقاء فيه.
هذا القهر الاجتماعيّ  تعمل على ترسيخه وسائل التواصل المتداولة  ، إذ  توسّع  الهُوّة بين الأشخاص وتعمّق الإحساس بالتفاوت الطبقيّ ، وتُحرٍّض على ثقافة العمل بالمثل لتحقيق نفس النتيجة والعيش في رفاه ونعمة مهما كانت الوسائل والنتائج ، أو ضخّ الحقد والنقمة في النفوس والشروع في إيذاء الذات ومَنْ حولها وصولا إلى الآخر .
من هنا تتولّد ثقافة الرّبح السّريع والرّغبة في الاستثراء، وهاجس  تقليد النماذج المؤثّرة في اللباس ونمط العيش والأكل والكلام ، وتنتشر  العدوى  بين المراهقين والشبان من الجنسين ،  وينسى كل واحد واقعه ليبحث عن طريقة يُجنّح بها عاليا مهما كانت الوسائل والنتائج .
من هذا  المنطلق يصبح  التعليم غير مُربح، والشّهادة الجامعية غير مُجدية ، والتكوين المهنيّ مَعرّة ، والعمل مضيعة للأحلام وعقابا للمغضوب عليهم من الكادحين والبُسطاء . وتَضرب بذلك تلك الحياة الوهمية الاستعراضية في الافتراضي قيمة العمل ، وثقة الشخص في ذاته ، وحُلمه  وعلاقته بما يمكن أن ينفع به نفسه وبلاده.
ويستسلم الجميع إلى ثقافة نفْخ الصدور بالرّيح ، وحشو الرأس بالأوهام ، وكلّما زاد الإبهار ، وصعدت طبقة جديدة من المؤثّرين في شبكات التواصل الاجتماعيّ، كلما انتشرت هستيريا  الاستعراض   والتهافُت على العمل بالمثل ، ونبتت طبقة جديدة يسكن رأسها  القهر الاجتماعي وتتحوّل إلى طاقة مدمّرة لنفسها و المجتمع .
هذا   ما يستوجب توعية  العموم  والنّاشئة  بأنّ ما يُعرض على مدار اليوم على شبكات التواصل  ليست سوى إسقاطات ومحاولات للانسلاخ من الجلد ، حتّى لا نفقد كلما توغّلنا في هذه الفوضى قيما عديدة  مثل ثقافة العمل ، والتعليم كمصعد اجتماعيّ،  والتعويل على النفس لبناء الذات وبناء الوطن . 
وحيدة المي

تعليقات الفيسبوك