مجموعة "جدير بالحياة" للشاعرة فوزية العكرمي (2-3): نصوص… تتغنّى بالحياة

مجموعة "جدير بالحياة" للشاعرة فوزية العكرمي (2-3): نصوص… تتغنّى بالحياة

تاريخ النشر : 11:16 - 2021/02/13

نشرنا امس الجمعة الجزء الاول من هذه الدراسة التي تناول فيها يوسف عبد العاطي التجربة الابداعية للشاعرة فوزية العكرمي وعتبات نصها وهذا الجزء الثاني من هذه الدراسة:
... و بكلّ ما ارتسم في داخلي من مواقف و أسئلة، وجدتني أُقدم على مطالعة القصائد بنفس توّاقة إلى التّذوّق الجيد لها. لذلك وجدتني أبحث مباشرةً عن الخيط الرّابط بين أوّل، و آخر قصيدة في الكتاب علّني أتوصّل من خلال المقارنة بينها على إحدى المفاتيح التي تساعدني على فهم بعض المقاصد الجمالية و البلاغية أيضًا.
انطلقت أشعار المجموعة بقصيدة حملت عنوان « أنا » لأشعر كقارئ طبعًا، بأنّ الشّاعرة اختارت كشف كلّ أوراق هويتها، أو هذا ما أوهمني به العنوان. غير أنّني و بتقدّمي في المطالعة ، أدركت أنّ القصيدة الثانية و التسعين كانت أكثر وضوحًا في هذا المجال، و سأعود إلى ذلك لاحقًا.
أعود الآن إلى القصيدة الأولى « أنا » و هذا نصّها: 
( أَنَا ابْنُ خَرِيفٍ عَابِرٍ 
مَا تَعَوَّدْتُ قِرَى الغُرَبَاءِ 
حَسْبِي إِنْ سَقَطْتُ 
أَسْقَطْتُ فِي دَمِي كُلَّ المَارِقَاتِ )  ( ص : 9). 
و يلاحظ معي القارئ أن هذا النصّ، جاء في شكل إعلان إخباري تعرّفنا من خلاله، على أهداف الكتابة لدى الشّاعرة، دون أن تسقط في فخّ الخطابة الفجّة. و أرى أنّ مثل هذا الوضوح يمنحنا أجنحة إضافية نحلّق بها في عالم فوزية العكرمي الشّعري، بعيدًا عن عكس ما نخلص إليه على ذات الشّاعرة، و حياتها الخاصّة. لأنّنا في النهاية بصدد قراءة نصوص إبداعية، لن تكون بالضّرورة سيرة ذاتية.
أمّا القصيدة الأخيرة في المجموعة و الّتي حملت عنوان: « لَمْ يَقْتلْك أحد » فجاءت كما يلي: 
 ( قلتُ لحَفِيدِ حَفِيدِي:
نُحْ بقَبْرِي وَلَوْ بَعْدَ قَرْنَيْنِ…
كَمْ كُنْتِ وَاهِمة جدّتنا 
لَمْ يَقْتُلْكِ أَحَدٌ!
لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مُنْذُ قَابيل و هَابيل 
      … هِي السَّمَاءُ ترْدمُ الأرْضَ 
لِتَغْرِسَ شَجَرَةً أُخْرَى فِي تُرْبَتِهَا القَاحِلة…)  ( ص :114)
و أظنّ أنّ الخيط الرّابط بين القصيدتين لم يكن سوى ذاك الوفاء الصّافي لحبّ هذا الوطن. بل أجدها تُطالب حفيدَ حفيدها، حين يأتي لزيارة قبرها بإعادة إعمار الأرض و غرس شجرة أخرى في تربتها القاحلة. فهل يعني هذا أنّنا أمام نخلة سامقة لا تعرف غير الوفاء للوطن رغم الجدب؟
و نلاحظ من خلال المقارنة بين القصيدتين، أن الشّاعرة اختارت عن قصد أو تلقائيًا، الانتصار لبناء هذا الوطن المنشود، و لو بعد حين، رغم مرارة الإحباط الذي يصيبنا و يدفعنا إلى السّقوط ويوهمنا بالموت ويشعرنا بأنّنا قُتلنا. غير أنّ الأمل سيسكن أحفاد أحفادنا، لنجدهم يغرسون شجرة في التربة القاحلة. و أشير في هذا المجال إلى أنّ ما ذهبت إليه لا يُمكن إلاّ أن يكون أحد القراءات الممكنة.
و حتّى أكون واضحًا مع القراء ، أشير إلى أن القصيدة الثانية و التسعين في المجموعة، و التي أشرت إليها سابقًا، كان لها الدور الرئيسيّ في توجيهي للتّسليم بهذا التّأويل الذي خلُصت إليه بعد مقارنة القصيد الأول و الأخير في المجموعة. لذلك أرى أنه من المفيد التّذكير بهذه القصيدة الّتي جاءت حاملة لعنوان «  وطنٌ من قشّ الحكاية » و جاء فيه : 
 ( سَأَصْنَعُ مِنْ قشّ الحكَاية وَطَنًا 
أَحْمِلُهُ مَعِي كَما الرّواة القدامَى 
عَلَى سَنَام العُمْرِ… 
أُخْفِيهِ بَيْني و بينَ المَجَازَ 
بَيْنَ صَوْتِي وَصَدَاه 
يَشْكُو إِلَيّ ظُلْمَةَ القَاعِ 
أَشْكُوهُ ظَمَأَ الجُدْرَانِ 
  وَ المَاءُ اسمي)  ( ص : 113). 
فالشّاعرة تعلن منذ البدء، أنّها مقدمة على الفعل مع الاعتماد على الموروث. حيث نجدها تصرّح بأنّها ستصنع من قشّ الحكاية وطنًا، تحمله معها كما الرّواة القدامى، على سنام العمر. لتعلن في نهاية القصيدة أنّ اسمها هو الماء، و نحن نعلم أنّ الماء هو أساس الحياة في هذا الكون.  
و أرى أن التّأويل الذي ذهبت إليه، لا يُمكن أن تكتمل أركان تأكيده ، إلّا بالإشارة إلى القصيدة الحادية و الأربعين في المجموعة و قد حملت عنوان: ( ماذا لو قلت…) و اختارت الشّاعرة وضعه في الغلاف الأخير للكتاب. و جاء كما يلي:  
 ( ماذا لو قلتُ: 
  أحبّك 
ثمّ ألقيتُ بك من أعلى المعنى 
لترى كم بؤسا تحمّلتُ كي أصيرَ كلمة 
ماذا لَوْ قُلْتُ:
أُحِبُّكَ 
ثُمّ ألْقَيْتُ بِنَفْسِي مِنْ دِلَاءِ حِبْرِكَ 
فِي مَتاهَةِ الحَرْفِ المُوالي 
… لِأَرَانِي لِلمرَّةِ الأَخِيرَة 
جُمْلَةً مُتَمَاسِكَةً)  ( ص: 54)
و بناءً على كل ما تقدّم، أكاد ألتقط معنى واحدًا للمعاناة الّتي تواجهها الشّاعرة في اختيار قاموسها الشّعري قصد تبليغ ما يسكنها من أحاسيس. و أجدها في هذه القصيدة تختار الصّورة الأمثل للتّعبير عن هذه المكانة التي تعطيها للكلمة بصفة عامّة. 
فحتّى تكون الصّورة معبّرةً و مؤثّرة في وجدان المتلقّي، نجدها تختار البوح بكلمة « أحبّك » و ما يعني ذلك في حياة المرأة بصفة عامة، و الشّرقية خاصةً. حيث نجدها تُغلّف هذه المعاناة في أسلوب شاعري قادر على استيعاب جميع الأحاسيس المخفية و تبليغها في جملة متماسكة.
و مثل هذه المعاناة مع الدقة في التّبليغ، تعطينا جوابًا مقنعًا حول سبب اختيار و ارتكاز فوزية العكرمي على كتابة القصيدة المختزلة و المكثّفة، و الّتي أشعر أنّها امتلكت ناصية فنّياتها و أبدعت في صياغتها، مع محاولة تطويرها.
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

افتتحت اليوم الجمعة 17 ماي فعاليات الدورة 6 من مهرجان تريتونيس بدقاش من 16 إلى 19 ماي 2024 بتنظيم
18:52 - 2024/05/17
انطلقت صباح اليوم الجمعة  17 ماي 2024  بالمعلم الأثري القصبة بالكاف فعاليات مهرجان ميو في دورته 3
15:21 - 2024/05/17
يحتضن المسرح البلدي بالعاصمة مساء اليوم الجمعة 17 ماي 2024، عرضا فنيا موسيقيا تونسيا، يؤمنه نجم ا
11:46 - 2024/05/17
مدة 16 سنة دأبت دار الثقافة بمدينة مساكن على تخليد ذكرى المبدع المرحوم علي مصباح من خلال تنظيم مه
07:00 - 2024/05/17
لئن مازالت المفاوضات متواصلة بخصوص عروض الدورة 58 لمهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين، إلا أن الثاب
07:00 - 2024/05/17
نعت وزارة الشؤون الثقافية المطربة سلمى سعادة التي وافتها المنية اليوم الخميس 16 ماي 2024.
18:41 - 2024/05/16
تفتح وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية جميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة والمتاحف المف
14:41 - 2024/05/16
يحتضن المركب الثقافي أسد بن الفرات بالقيروان أيّام 17، 18 و 19 ماي 2024 فعاليّات الملتقى الوطني ل
13:23 - 2024/05/16