"حكايا باريس" لعبد القادر بن الحاج نصر(3/3): بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية

"حكايا باريس" لعبد القادر بن الحاج نصر(3/3): بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية

تاريخ النشر : 13:30 - 2021/01/31

ذكرنا في الجزء الثاني من هذه الدراسة لمجموعة "حكايا باريس" للروائي والقاص عبد القادر بن الحاج نصر انه تمكن من رسم لوحة فنية بقلم الحبر، ومن تسجيل تفاصيل الحياة اليومية انطلاقا من ربوع مسقط رأسه بئر الحفي دون الوقوع في فخّ الشّوفينية، أو التّمجيد للنعرات الجهوية.

وهذا الجزء الثالث والأخير : أصل الآن إلى القصّة الأخيرة في كتاب ( حكايا باريس) و هي الأطول من حيث عدد الصفحات، حيث امتدت أحداثها على ثلاث وخمسين صفحة كما أنّها تشترك في العنوان مع كامل المجموعة، و هو الأمر الذي يمنحها مكانة إضافية على بقية القصص، دون أن يعني ذلك أفضليتها عليها. اختار الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر تقسيم أحداث هذه القصّة على اثنتين و عشرين لوحة جاءت كلّها معنونة و في شكل يوميات ترتقي في احيان كثيرة الى أدب الرحلات أو السيرة الذاتية تحديدًا، بما أن شخصية الكاتب كانت حاضرة بالتلميح و التصريح أيضًا. بل اشعر ان تجربة السفر الى باريس قصد متابعة الدراسة و نيل شهادة الدكتوراه ما زالت تسكن القارئ، و يظهر هذا خاصةً في إنتاج الاديب الذي لحق اصدار هذه المجموعة والأكيد انه ستكون لنا عودة معمقة لهذا الموضوع بعد إصدار النصوص الأدبية الجديدة في كتاب.

أعود الآن إلى قصّة ( حكايا باريس) و التي انطلقت أحداثها بلوحة أولى عنونها الكاتب ب « معطف و قهوة ساخنة » معلنة عن موعد الوصول ، حيث جاء السرد كما يلي ( عندما نزلت بباريس بداية السّبعينات دون هويّة، دون سند مادّيّ، لا أملك غير حلم أكبر منّي شبيه بالجنون… ) ( ص : 149) فدافع الهجرة أو السفر لم يكن غير تحقيق حلم كبير شبيه بالجنون، و هذا يعطينا صورة جديدة لأهداف الهجرة التي غالبًا ما ارتبطت بتحسين الاوضاع الاقتصادية حتى و إن كان الهدف الأول هو تحسين الدرجة العلمية. بما أن نسبةً كبيرة منهم تختار الاستقرار في بلادالغربة بعد تخرجها. إلاّ أن الكاتب يعطينا في سرده للأحداث واقعًا مغايرًا، بما أنه كان مهووسًا بحب الوطن، و مسقط رأسه تحديدًا « بئرالحفي » و هنا تكمن أهمية هذه القصّة.

و أرى أنّ الفقرة الأخيرة من هذه القصّة و التي جاءت في اللّوحة الثّانية و العشرين الحاملة لعنوان « ما علمت أنّك غبيّ يا عبد القادر » تعطينا آفاقًا جديدة للتوغّل في فهم البعض ممّا خلّفته هذه التجربة في نفسية الكاتب. فقد انتهت أحداث هذه اللّوحة الأخيرة بسردها لحوار دار بين الكاتب عبد القادر و زميلته الأثيوبية الأصل فائزة التي قالت له: (… أنا على يقين من أنّك ستصبح في المستقبل من أهمّ أساتذة هذه الجامعة تمامًا مثل السيّد محمد أركون )، أنا أيضًا كنت أتمنّىأن أصبح مثل محمد أركون لكنّني خيّبت أملها و أملي معًا.

صافحتني ضاحكة ساخرة مودّعة قائلة بعد حديث عابر إذ كانت على عجلة من أمرها: « لم أكن أعلم أنّك غبيّ يا عبد القادر ». ( ص: 201 ) و هذه الجملة هي التي ختم بها الكاتب مجموعته. فهل نفهم من خلال ذلك أنّه كان يُعبّر عن تأنيب الضّمير الّذي ما زال يرافقه، إلى درجة تصل لمستوى جلد الذّات؟ خصوصًا و أنّ السّرد القصصي بيّن لنا إقدامه على رفض العرض الّذي قُدّم له للالتحاق و التّدريس كأستاذ مساعد و متعاون، في جامعة السّربون. و رغم كلّ ما تقدّم من ملاحظات حول هذه القصّة الأخيرة (حكايا باريس)، و رغم كلّ ما تضمّنته من أسماء توحي بأنها سيرة ذاتية، وسرد واقعي للأحداث، إلّا أنّه لا يُمكنني أبدًا نسيان أنّها قصّة قصيرة و حمّالة لنسبة كبيرة من الخيال الّذي يتطلّبه العمل الأدبي. كما ارى ان آليات نقد السير الذاتية تحتاج الى أدوات نقدية اضافية ، لذلك تجدني أكتفي بالإشارة إلى بعض دلالات الجملة الأخيرة في المجموعة ( لم أكن أعلم أنّك غبيّ يا عبد القادر).

دون التّسليم بأنّ المقصود هو الأديب عبد القادر بن الحاج نصر ، رغم ميلي إلى هذا التّأويل. و قبل أن أختم قراءتي لهذه المجموعة القصصية القيّمة، أريد أن أشير إلى ذاك التّشابه في الأحداث الحاصل بين قصّة ( سيّدة محترمةجدّا) و اللّوحة الحادية والعشرين من قصّة(حكايا باريس) و التي حملت عنوان( أنا و السيّد المنصّري)، و كليهما تروي لنا تجربة اشتغال الكاتب حارسا ليليا على احد مستودعات شركة « رينو » ، و ما تكرار الحديث عنها في أكثر من موقع إلّا دليلًا واضحًا على ما خلّفته هذه التّجربة من وقع نفسي لدى السّارد، و لا أقول الكاتب.

و لأنّ هذه الحادثة، و من خلال ما اطّلعت عليه في القصص، تفتح عدّة نوافذ للتّعمّق في مفهوم الهجرة و دوافعها، كما تحيلنا على موضوع الخصاصة في بلد يتباهى بحرية الفرد و احترام المواطن مهما كانت جنسيته و سبب وجوده في البلاد، فكيف إذا المقصود هو طالب علم . كما تعرّضت أحداث هذه القصص أيضًا، إلى موضوع التّمييز العنصري الّذي يسكن بعض المواطنين تلقائيًا. و كلّ هذه المواضيع أشعرأنّها تُعطيني أحقّية ان اقترح على الكاتب الإقدام على تدوين أحداث هذه التّجربة في عمل روائي يُثْري به المكتبة الأدبية بصفة عامّة.

و لا يفوتني في نهاية هذه القراءة لمجموعة ( حكايا باريس) توجيه عناية القراء و النقاد أيضًا ، إلى مطالعة قصصها لما احتوت عليهمن تشويق و حبكة فنية عالية، متمنيًا تواصل إنتاجات هذا الكاتب المبدع « عبد القادر بن الحاج نصر » الذي كلّما أصدر عنوانًاجديدًا إلّا و كانت إضافته نوعية للمكتبة الأدبية بصفة عامّة. و من باب تحفيز القراء على مطالعة قصص هذه المجموعة، أرى أنّه من المفيد الإشارة إلى ذاك الخبر الذي جاء في اللّوحة الرابعةعشرة من قصّة (حكايا باريس) و التي تبيّن لنا شدّة اعتزاز الكاتب بمسقط رأسه رغم إغراءات باريس الأنوار.

حيث يقول: ( هي رحلة الهزيمةبحقّ، هي العودة المرّة التي لن يخفّف من حدّة مرارتها غير الارتماء في فضاء الطّبيعة عند أرياف القرية.) ( ص: 179). فهل يُمكن إطلاق صفة رحلة الهزيمة بحق، على سفرة كُلّلت جهود صاحبها بنيل شهادة الدكتوراه في اللّغة و الآداب العربيّة من جامعة باريس؟ الأكيد و أنّ مطالعة قصص المجموعة ستعطينا الجواب الشّافي لهذا السّؤال، كما ستقدم للقارىء متعة حقيقية لا مثيل لها.

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

افتتحت اليوم الجمعة 17 ماي فعاليات الدورة 6 من مهرجان تريتونيس بدقاش من 16 إلى 19 ماي 2024 بتنظيم
18:52 - 2024/05/17
انطلقت صباح اليوم الجمعة  17 ماي 2024  بالمعلم الأثري القصبة بالكاف فعاليات مهرجان ميو في دورته 3
15:21 - 2024/05/17
يحتضن المسرح البلدي بالعاصمة مساء اليوم الجمعة 17 ماي 2024، عرضا فنيا موسيقيا تونسيا، يؤمنه نجم ا
11:46 - 2024/05/17
مدة 16 سنة دأبت دار الثقافة بمدينة مساكن على تخليد ذكرى المبدع المرحوم علي مصباح من خلال تنظيم مه
07:00 - 2024/05/17
لئن مازالت المفاوضات متواصلة بخصوص عروض الدورة 58 لمهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين، إلا أن الثاب
07:00 - 2024/05/17
نعت وزارة الشؤون الثقافية المطربة سلمى سعادة التي وافتها المنية اليوم الخميس 16 ماي 2024.
18:41 - 2024/05/16
تفتح وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية جميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة والمتاحف المف
14:41 - 2024/05/16
يحتضن المركب الثقافي أسد بن الفرات بالقيروان أيّام 17، 18 و 19 ماي 2024 فعاليّات الملتقى الوطني ل
13:23 - 2024/05/16