رواية "مدينة النساء" للروائي التونسي الأمين السعيدي.. يوتوبيا مضادة في مواجهة خراب الذكورة

رواية "مدينة النساء" للروائي التونسي الأمين السعيدي.. يوتوبيا مضادة في مواجهة خراب الذكورة

تاريخ النشر : 18:01 - 2025/06/04

في رواية "مدينة النساء" يغامر الروائي التونسي الأمين السعيدي بولوج أرض محفوفة بالتوترات السردية والفكرية.. إذ يبني نصّا تتشابك فيه الرؤية الفلسفية الطوباوية مع حسّ نقديّ جارح تجاه البنى الذكورية التي حكمت العالم وما تزال. 
إنها ليست رواية عن النساء، ولا حتى لأجل النساء فقط بل هي بالأحرى استشراف لخرائط خلاص محتملة للبشرية تصوغها امرأة وتحلم بها جماعة نسوية تقف في وجه نظام عالمي مشرف على السقوط.. نعم من هنا تنطلق الرواية بوصفها صيحة إنسانية مكتومة وسط صخب العنف وصوتا أنثويا يُعلي من شأن الحياة في وجه حضارة الفناء.
العتبات النصية: من العنوان إلى الغلاف.. وعودٌ بالفكرة والتمرّد
يبدو عنوان الرواية – "مدينة النساء" – كعتبة مثقلة بالدلالة لا تستبطن الطرح النسوي وحده بل تقترح منذ البدء مشروعًا رمزيًا مكتمل الملامح.. ليست المدينة هنا مجرد حيّز جغرافي بل هي استعادة لفكرة المدينة الفاضلة (Polis) كما حلم بها أفلاطون مع قلب جوهري في مركز السلطة: 
"لم تعد المدينة بيد الفلاسفة أو الحكماء الذكور بل صارت تحت قيادة نساء نجون من الاستبداد ليشرعن في بناء عالم بديل"... 
يُضاف إلى هذا البُعد رمزية الغلاف الذي تظهر فيه نساء متنوعات يرفعن أذرعهن كأنهن يرفعن مدينة بأكملها. 
و تجدر الإشارة الى خلفية الغلاف الموشّحة بالسواد والتي تترك المقدّمة للضوء في إحالة فنية إلى لحظة العبور من عالم منهار إلى آخر قيد التشكيل.. هي عتبة بصرية تُكثّف ثنائية الخراب/الأمل والتي تُشكّل النسيج الأساسي للرواية.
فكرة الرواية: الحلم الأنثوي كاستعادة للمعنى
ليست الرواية بناء على صراع ثنائي بين المرأة والرجل أو بين الجنسين.. بل هي دعوة جذرية لإعادة تأسيس العالم على أسس أكثر عدالة وكرامة انطلاقًا من تجربة الأنثى التاريخية في الألم والصبر والقدرة على العناية بالحياة.
في سردٍ تتصدره امرأة تونسية نجد مشروع "مدينة النساء" يتشكّل كاستجابة لنداء داخلي ينبثق من الخوف والرغبة في النجاة. فلا يُبنى هذا المشروع ككيان مسلح أو انتقامي بل كجماعة تتأسس على الحب و العدالة و الحوار واحترام الفرد.. تنبع الفكرة من الحاجة إلى كسر منطق السيطرة والعنف الذي طبع تاريخ البشرية عبر ما تصفه الرواية بوضوح: "الذكورة المسمومة".
تتكوّن المدينة من شخصيات نسوية متعددة الجنسيات والطبقات، وتظهر شخصيات كُتب لها أن تنجو من المجازر، من الأسر من الاغتصاب أو من الصمت فتجتمع لتؤسس هذا الكيان الجديد. هي رواية عن الإصغاء للآخر، عن الإنصات لجراحه، وصوغ ما تبقى من الأمل في هيئة مدينة.
السرد كأداة مقاومة: تعددية الأصوات وتكامل الأشكال

تتخذ الرواية من السرد أداة جمالية ووجودية للمقاومة.. فالرواية مكتوبة بضمير المتكلم تنطقها ساردة عالمة بالأشياء ولكنها في العمق تتكلم بوصفها جزءًا من الحلم من الخوف ومن المأساة.. لا تقع الرواية في رتابة الحكي الخطي بل تتوزع مقاطعها بين وصف الخارج المنهار (العالم الذكوري الذي حكم بالحديد والنار)، وبين بناء الداخل (المدينة الجديدة). 
يقطع السرد أحيانًا ليُتيح لحوارات داخلية بين النساء، أو لتقارير تشبه المحاضر السياسية، أو لصور شعرية خافتة تكشف عن توتر الحلم.
هذه البنية المتعددة تُضفي على الرواية طابعًا دراميًا وفكريًا في آن يجعل من القارئ جزءا من هذه الجماعة التي تخترع عالما جديدا وهي تدرك هشاشتها وأيضا عنف العالم الذي تُفكر في تجاوزه..
اللغة والأسلوب: فصاحة الواقع وشعرية الانهيار
تُكتب الرواية بلغة عربية فصيحة ناصعة لا تتكلف التزيين، ولا تقع في الاستسهال.. و هي لغة تفكر وتصف.. تمشي على خيط التوازن بين الجمال والدقة.
يظهر الأسلوب في مرونته بين توصيف الواقع بلغة تقارير مريرة، تقترب أحيانًا من الوثيقة السياسية، وبين الانزياح إلى نثر شعري يتكلم فيه الجسد والذاكرة والخوف كأنها قصيدة تُكتب من رماد الحروب.
في لحظات تبدو اللغة مختنقة متقطعة تحمل نفسًا لاهثًا كما في مشاهد الهروب من الجحيم.. وفي أخرى تسترسل بهدوء رصين كأنها تقدم بيانًا تأسيسيًا لعالم جديد.
تأويلات ممكنة: "مدينة النساء" كنص طوباوي-تفكيكي
الرواية تفتح باب التأويل على مصراعيه، فهي في الوقت ذاته بناء طوباوي (يوتوبيا تقترح عالمًا مثاليًا تقوده النساء)، وهدم تفكيكي لبنية حضارية كاملة. في هذا المعنى، يمكن تأويل المدينة كرمز لرحم جديد، لحضارة قيد الولادة، يقف الذكر فيها خارجًا، مُدانًا، عاجزًا، لكن ليس مرفوضًا بالكامل. بعض مشاهد الرواية تسمح بإدخال الذكور المتحررين من الذكورة القمعية، وهو ما يُفسر بأن الرواية لا تقترح عالماً جنسانيًا معكوسًا، بل تسعى إلى نسخ أعمق من الإنسان.
قد تُقرأ الرواية أيضًا بوصفها بيانًا ضد الاستبداد، لا فقط السياسي أو العسكري، بل الرمزي والثقافي، حين يُعيد الإنسان إنتاج القمع داخل البيت، اللغة، المدرسة، والعلاقة. "مدينة النساء" إذن ليست نهاية، بل لحظة انفتاح نحو أفق ثالث، لا هو الرجل كما كان، ولا هي المرأة كما قُمعت، بل هو الكائن كما يمكن أن يكون حين تتحرر الأسئلة من أُطرها القديمة.
لمحة حول الكاتب:
الأمين السعيدي، كاتب تونسي اصيل معتمدية جلمة ولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي.
 استاذ تعليم ثانوي و وهو يُعدّ من الأصوات الروائية والفكرية البارزة في المشهد الثقافي التونسي المعاصر خاصة خلال السنوات الأخيرة. 
صدرت له عديد من الروايات والمقالات الفكرية التي تهتم بالسؤال السياسي والاجتماعي والفلسفي.. من أهم مؤلفاته:
ضجيج العميان، ظل الشوك، المنفى الأخير ...
الهوامش التوثيقية:
1- الأمين السعيدي: مدينة النساء.. دار عليسة للنشر، تونس سنة 2021.
2- حسن ناظم: يوتوبيا المدينة عند الفلاسفة والروائيين.. مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 111 بيروت سنة 2016.
3- مي غصوب: الأنثى كرمز في الخطاب العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت سنة 200
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

صادفت العلاقات الاقتصادية بين تونس والجزائر بعض العقبات عند حصول الجزائر على الاستقلال فقد كانت ا
07:00 - 2025/06/05
م. د. عماد الحسين، أستاذ المواد والتقنيات بالمعهد العالي للفنون والحرف بالقيروان
07:00 - 2025/05/28
هنالك رهطان يستعديان  العمل النقابي عداءً شديدًا ويحقدان على النقابيين حقدًا دفينًا :
07:00 - 2025/05/27
رغم كل التحديات التي ترافق المرحلة اليوم في تونسنا الخضراء بكل أبعادها السياسية والإقتصادية والإج
07:00 - 2025/05/27
من هنا أيضا تفسير ما نراه أحيانا من تبدل في موقف بعض دول الغرب كفرنسا بشكل خاص ومن قضية فلسطين ،
07:00 - 2025/05/26
أرسى الزعيم الحبيب بورقيبة أول وزير للشؤون الخارجيّة من 11 أفريل 1956 إلى 28 جويلية 1957 سياسة تو
07:00 - 2025/05/26
لم يبق سوى بضع أسابيع لحلول فصل الصيف وفيه ينتظر رجوع العديد من مواطنينا بالخارج إلى أرض الوطن وه
07:00 - 2025/05/26