مع الشروق .. حدث عابر... أم مقدّمات لأحداث صاخبة

مع الشروق .. حدث عابر... أم مقدّمات لأحداث صاخبة

تاريخ النشر : 07:00 - 2024/05/29

الاشتباك الأخير بين المصريين والصهاينة في معبر رفح والذي راح ضحيته جندي مصري لا يجب أن يفاجئ أحدا.. فهو يأتي في سياق السياسات الصهيونية التي خططت لاستهداف الساحات العربية واحدة بعد أخرى على درب إنجاز ما يسمونه «إسرائيل الكبرى».
الكيان الصهيوني زرع بالقوة.. وقام على أرض فلسطين ويستمر ويتوسّع معتمدا على غطرسة القوة وعلى الولاء المطلق للغرب، بدءا بـ«بريطانيا العظمى» ووصولا إلى «الامبراطورية الأمريكية». وليس غريبا وهو الكيان المسلح فوق هذا بكمّ عجيب من الحقد ومن الخرافات التوراتية أن يبدي كل هذا التلذذ بقتل وإبادة الفلسطينيين في غزة وفي القطاع أيضا.. وأن يظهر كل هذا التفاني في قصف واستئصال كل أسباب الحياة. فالعربي الجيد بالنسبة للصهاينة هو العربي الميت.. لكن الصهاينة يملكون من الدهاء ومن الإيمان بـ«مشروعهم» ويملكون من الصبر ما يجعلهم يعطون لمشاريعهم كل مداها الزمني ويطبخونها على نار هادئة حينا وعلى نار حامية أحيانا وصولا لتهيئة الأرضية لـ«المشروع الكبير».
لذلك عملوا في البداية على تحييد مصر وتكبيلها باتفاقية «كامب دافيد» وبعدها كبّلوا الأردن باتفاقية «وادي عربة».. ومن ثم أطلقوا أيديهم لتجوس خلال الديار العربية من لبنان إلى سوريا وأبعد من ذلك بكثير إلى العراق حين قصفوا المفاعل النووي العراقي وهيّؤوا الأرضية لغزو العراق واحتلاله وإخراجه من معادلات ومن ترتيبات المنطقة.. أيديهم انطلقت أيضا داخل فلسطين المحتلة، حيث عملوا ورغم الاتفاقات التي فرضوها بدعم وإسناد أمريكي واضح مثل اتفاقية أوسلو على التمادي في قضم الأراضي الفلسطينية والعمل على تهويدها على درب تحقيق «يهودية دولة إسرائيل».. ليصل بهم الأمر إلى نقل سفارتهم إلى القدس المحتلة وتكريسها «عاصمة أبدية لدولة إسرائيل» ومن ثم التوجه إلى مزيد التضييق على سكان القدس ومزيد استباحة الأقصى ـ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ـ تمهيدا لتغيير هويته الاسلامية وتعويضه بالهيكل المزعوم حتى أنهم أحضروا البقرات الحمراء استعدادا لطقوس تهويد الأقصى نهائيا.
عند هذه النقطة ظنّ الصهاينة أن المحيط الاقليمي قد دان لهم.. وأن عجز العرب وضعفهم بات يغريهم بفتح صفحات جديدة من صفحات ابتلاع كل فلسطين ومن ثم المضي نحو «إسرائيل الكبرى».. وكان قطاع غزة هو بداية الطريق الجديدة نحو هذا المشروع.. خاصة وقد التقت في لحظة تاريخية مجنونة أحلام الصهاينة وتطلعاتهم بأحلام وتطلعات الامبراطورية الأمريكية في تهيئة المنطقة لاستحقاقات طريق «الهند ـ أوروبا» التي تخطط من خلالها أمريكا إلى احتواء وإجهاض طريق وحزام الحرير الصيني.. ولسوء حظ قطاع غزة ولسوء حظ سكانه أنه يوجد بالضبط في مرمى الأطماع الصهيونية والأمريكية في نفس الوقت.. أطماع تمر عبر إخلاء القطاع من كل سكانه لتوظيفه في خدمة المشاريع الصهيونية الأمريكية الكبيرة..
ولأن «المشروع» كبير وخطير.. ولأن «المقاولة» كبرى  يشرف على انجاز أعمالها المقاول الأمريكي بنفسه فقد آثر العرب النأي  بأنفسهم وهم المنقسمون أصلا بين مطبعين لاهثين وراء ودّ الصهاينة وبين متفرجين وعاجزين. فيما آثرت القوى الدولية الاكتفاء باصطياد اللحظات لتسجيل نقاط على حساب أمريكا أو لمزيد إحراج ـ الدابة ـ الأمريكية وعزلها في سياق صراعات أخرى مدارها النظام العالمي الجديد وهل يبقى أحاديا على قرن الثور الأمريكي أم يتحول تعدديا لكبح جماح الدابة الأمريكية..
أما جمهورية مصر العربية وهي أكبر دولة عربية وأكبر قوة عربية والمعنية بلعب دور إقليمي ودولي يليق بها وبحجمها فقد أدركت منذ بداية العدوان على غزة أنها كمن يمشي على أرضية ملغمة وأن عليه احتساب خطواته بالدقة المطلوبة حتى يتجنب كل الاستفزازات والفخاخ التي تريد جرّه إلى مواجهة شاملة لم يختر توقيتها ويعرف أنه سيواجه فيها ـ إن حدثت ـ «الأصيل» الأمريكي الذي جاء بأساطيله وقوته لرفد «الوكيل الصهيوني» وفوق هذا، فإن مصر لم تنس ولا يجب أن تنسى أنها قد عينت في خارطة الطريق الأمريكية للسيطرة على المنطقة من خلال «التقسيم وإعادة التشكيل» وبواسطة «الفوضى الخلاقة» بمثابة «الجائزة الكبرى» بعد أن تكون كرة النار قد تدحرجت من العراق إلى سوريا ومنها إلى السعودية وليبيا لتحط الرحال في مصر..
ولعلّ هذه المخاوف المصرية وهذا «التكتيك» المصري هو ما بات يعرّض الموقف المصري والأداء المصري للكثير من «القصف» والانتقاد من شرائح واسعة من الجماهير العربية وحتى المصرية التي ترى فيها قعودا وتخلّفا عن نصرة أشقائنا في غزة.. لكن حسابات الصهاينة  تتناقض بالضرورة مع حسابات مصر.. حيث يعتمد الصهاينة سياسة مرحلية تمكنهم من الانفراد بالساحات والجبهات واحدة بعد أخرى على درب توجههم نحو الهدف الكبير: إسرائيل الكبرى.
ولعلّ الصهاينة باتوا يعتقدون أن اللحظة التاريخية واللحظة العربية بما فيها من عجز وفرقة باتتا تدفعانهم دفعا إلى المرور إلى السرعة القصوى.. فتطلعاتهم تمتد من النيل إلى الفرات.. وخطوة الألف ميل تبدأ حتما من مصر لتتدحرج كرة النار نحو لبنان وسوريا والأردن والعراق.. لذلك سيستمرون في استفزاز الجانب المصري ومحاولة استدعاء «اللحظة الملائمة» لإطلاق «مقاولتهم الكبرى» طالما أن المقاول الأمريكي موجود في المنطقة بكل أدواته وآلياته.. من يدري؟
عبد الحميد الرياحي
 

تعليقات الفيسبوك