أَزَزْلَفْ ( حرقان) لفتحي بن معمّر (3/3): نص مسكون بهاجس الاشارات والإيحاءات البلاغية

أَزَزْلَفْ ( حرقان) لفتحي بن معمّر (3/3): نص مسكون بهاجس الاشارات والإيحاءات البلاغية

تاريخ النشر : 18:48 - 2021/03/21

نشرنا امس الجزء الثاني من هذه الدراسة التي وضح فيها الكاتب يوسف عبد العاطي كيف ان تأويل المعاني و المقاصد في الاعمال الابداعية لا يمكن ان يكون إلاّ من داخل منجزها لا من الأحكام والأوصاف المسقطة او المدخلة من الكاتب ونواصل اليوم نشر الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة : و لأنّني أحاول دومًا أن أكون إيجابيًا، أشير إلى أن الرّواية اكتفت بذكر تفاصيل نضال وحيد لبشير، و الّذي حدث بعد الثّورة، و ليس قبلها.

و هو الاعتصام و الاحتجاج ضدّ المصب العشوائي للفضلات في قلّالة. و الحال أنّ الكاتب تحدّث عن حياته بمرارة كبيرة، لكن من خلال أوصاف لا أفعال. فحتّى حين تحدّث عن فترة سجن أبيه و اضطراره إلى العمل في حضائر البناء، لم نلمس معاناته زمن العمل بل اقتصرت الإشارة إلى اضطراره إلى التّحوّل بعيدًا عن القرية بسبب الاحتياط المبالغ فيه الذي أصاب الناس. فقد كنت أنتظر مثلًا تنقّله لعدّةكيلومترات خوفًا من المخبرين و الوشاة و توفيرًا لبعض المدّخرات التي كان في حاجة إليها. كما لاحظت تغييبًا كلّيّا لطبيعة الأنشطة التي أتاها البشير في فترة دراسته الجامعية و الّتي كنّا نعلم أنه تعرّض خلالها إلى اعتقالات متكرّرة، لكن دون التّوصّل إلى معرفة طبيعة تفاصيلها حتّى ندرك بعد ذلك موقفنا منها. لأنني بقيت حتّى بعد الانتهاء من مطالعة الرّوايةأتساءل: هل كانت تحرّكاته لتحسين أوضاع الطّلبة و مناهج التّعليم؟ أم خدمة لتوجّه سياسي يؤمن بمبادئه و بقيت ملامحه غامضة؟ أم إنّ كلّما تعرّض له كان نكالة به فقط لأنه ابن مواطن معارض؟ كلّ هذه الأسئلة و غيرها تجدني أتساءل: لماذا هذا الهروب المتواصل و بإصرار من التّدقيق و البوح الذي يتعمده الكاتب؟ و للتّدليل بوضوح أكبر على الهروب المتعمّد من الكاتب لرسم ملامح طبيعة هذا المعارض نجده يقول في الفصل الخامس و هو يقدّم لنا العم علي الصّديق الوحيد الّذي لم يتنكّر أبدًا للهادي بهذا التّعريف: ( رجل قاوم الاستعمار ببسالة و عايش الصّراع الّذي نشب بين أتباع الحبيب بورقيبة و أتباع صالح بن يوسف و اكتوى بنار هذاالصّراع و سُجن و عُذّب و عَرَفَ التّشريد و المنع من العمل و الجوع) ( ص: 27) فبعد أن حدّد طبيعة الصّراع الأوّل ضدّ المستعمر و الثّاني بين رجلين استكثر عليهما صفة الزّعيم، نجده يصف الثّالث بالإشارة دون توضيح (هذا الصّراع…) و كأنّ البلاد لم تعرف غير عائلة فكرية واحدة و محدّدة من المعارضين، جلبت لمناصريها تلك المضايقات الأمنية، والحال أنّ الأحداث وصفت لنا أب ابتسام صديقة البشير الّتي ستصبح زوجته لاحقًا بالقول: ( ابتسام ابنة بسْمَة و حفيدة الشّيخ علي، ابنة الطّاهر ذاك الرّجل الذي عانى هو الآخر من ويلات السّجن بسبب أفكاره و نضاله في صفوف اليسار التّونسي و نشاطه المحموم صلب الاتّحاد العام التّونسي للشّغل و هو من القلائل في القرية الذين كانوا يتضامنون مع الهادي و يساعدون العائلة.) (ص: 33).

و من الأوصاف الّتي تكرّم بذكرها الرّاوي، نقرأ:(… فيتأكّد لهم أنّ هؤلاء القوم لا ينهزمون أبدًا و لا يرضخون مهما حصل لهم.) ( ص:30). فمن هم يا ترى؟ و بعيدًا عن موضوع الامتناع عن التّدقيق في رسم ملامح النّضال المُتحدّث عنه داخل الرّواية، أرى أن الكثير من الإيحاءات و المبرّرات الفنّية و البلاغية كانت متوفّرة في الرّواية، غير أن الكاتب اختار عدم الغوص فيها و تحديدها و تمييزها عن غيرها. من ذلك مثلًا فقدان البشيرلإحدى عينيه ليلة اعتقال أبيه، ليُفرض عليه رؤية أحداث العالم من زاوية نظر واحدة. كذلك الحصار الذي فُرض على العائلة و انقطاع التّواصل الكلّيّ مع أفراد المجتمع بسبب اعتقال الهادي و كثرة المخبرين و الواشين. إضافةً إلى حرمان البشير من متابعة الدّراسة خارج البلاد رغم حصوله على أعلى معدّل في البلاد في امتحان الباكالوريا. و هنا أسأل: ألم يكن من الأجدر توجيهه إلى شعبة الحقوق؟ و أوضّح أنّني لا أتحدّث عمّا يمكن أن يحصل في الواقع، بل إنّ دوافع سؤالي تنبع أساسًا من أحداث الرّواية دون سواها.

و لمزيد التّدليل على هذه الأمثلة المذكورة، أشير مثلًا إلى تلك الجملة التي شعرت أنها رُميت داخل النصّ دون مزيد التعمّق في تأثيراتها النفسية على الشّخصيات بصفة عامة. لذلك أحسست أنّها جاءت معزولة دون تفكيك أبعادها و لا ذكر تأثيرها على هذه الشّريحة من المجتمع حين تبحث لها عن موقع في الحياة، و الحال أنّ ما تضمنته من أخبار كان قادرًا على تأثيث إضافات مهمة للرواية. الأكيد أنّ التّعرّف على هذه الفقرة سيمكن القارئ من تلمّس بعض مناخات الكتابة في هذه الرّواية المفعمة في مجملها بالإشارات والإيحاءات، و قد جاء فيها: (…فهي إذ تحتضنها تحتضن العالم و قد اشتاقت إلى زيارة يؤدّيها لها ضيفٌ أو أحد أفراد القرية الذين هجروها منذ تلك اللّيلة الّتي قُبض فيها على الهادي و فَقَدَ فيها البشير نُورَ إحدى عينيه.) (ص:33).

و أشير إلى أنّ ما دفعني إلى التعبير عن كلّ هذه الملاحظات الشّكلية هو اقتناعي التّام بأن أحداث هذه الرّواية كانت مؤهّلة لأن تصبح وثيقة أدبية و اجتماعية تؤرّخ لتلك الفترة الزّمنية و لنضال هذه المجموعة من المعارضين للنّظام القائم لو اهتم الكاتب ببعض التّفاصيل و تجرّأعلى كشف هويّاتهم الأيديولوجية و الفكرية صراحة و بكامل التّدقيق. لذلك شعرت أنّ التّأكيد على مطالبة الكاتب بهذه التّفاصيل كانت ستعطي للرّواية مصداقية أكبر، حتّى و إن كان هذا القارئ لا يحمل نفس الرّؤى الفكرية، و لا يشترك معه في الانتماءات الجغرافية والأوساط الاجتماعية. فقد شعرت في أحيان كثيرة أنّ الكاتب تغافل تلقائيًا عن استغلال بعض الدّلالات المتوفّرة أساسًا في أحداث الرّواية.

و تكفيني هناالإشارة إلى وجود الرّاوي (البشير) كامل الأحداث بعين واحدة. فيقول مثلًا: (… استطاع باجتهاده أن يفرض وجوده في الجامعة لمواصلةدراساته العليا في التّاريخ متخصّصا في تاريخ الحركة الوطنية التي كان يشعر أنّها كتبت بعين واحدة و قد انحاز فيها بعض المؤرّخين لطرف دون آخر.) ( ص : 63) فقد كانت هذه الحالة الحدثية فرصة سانحة للكاتب لذكر بعض القراءات أو القرائن المختلفة مع الرّواية الرّسمية لتاريخ الحركة الوطنية وبذلك تُعطى الفرصة كاملة للبشير و أبيه الهادي لتبرير نضالهم الذي عانت منه العائلة و تعرّضت خلاله إلى كلّ صنوف القهر. فالمؤرّخون سجّلوا قراءاتهم من زاوية نظر واحدة كما اضطرّ البشير إلى معايشة الواقع بعين واحدة و لكن بفعل اعتدائهم لا اختيارا منه.

و أرى أنّ الرّبط بين الحالتين كان سيعطي أجنحة إضافية للتّأويل. و في نفس هذا السّياق شعرت أنّ الكاتب مرّ خلال سرده الرّوائي على عدّة أحداث مهمّة حصلت في الفترة الزّمنية التي اختار تغطيتهاباختزال كبير و الحال أنّ المتن الرّوائي كان يدعوه إلى التّوسّع. من ذلك مثلًا قضية الاغتيالات السّياسية التي عرفتها البلاد أثناء حكم الترويكا.

و في ختام هذه القراءة الموجزة لهذه الرّواية المهمة « أَزَزْلَفْ »(حرقان)، أشعر أنّنا سنكون في شوق إلى التّعرّف على الانتاجات الجديدة لفتحي بن معمر، و الّتي أتمنى أن يتمكن فيها من التّخلّص من واجب التحفّظ ليتوسّع في ذكر التّفاصيل، و يعطي لعمله مصداقية أكبر. فنحن أمام كاتب يُتقن فنّيات السّرد، و يمتلك الموهبة الضّرورية لكتابة أعمال تكون إضافتها للمكتبة الأدبية نوعية و ليست عددية فقط. كما لا تفوتني الإشارة إلى تلك القدرة الكبيرة التي بيّنها في استعماله للّغة العربية، رغم إقدامه على نشر العناوين بالأمازيغية حتّى في كتابه الجديد « تِنْفَاسْ سَقْ جَرْبَة » (حكايات أمازيغية جربية) و الّذي قد تكون لنا عودة له لاحقًا. فقد أصرّ و من باب الثقة بالنفس على نشر فقرات كثيرة من الرّواية مشكولة، و الحال أن لا أحد يطلب منه ذلك.

و في انتظار القادم من أعمال هذا المبدع فتحي بن معمّر ، تجدني أدعو الجميع إلى الاطّلاع على هذه الرّواية المهمة، و حسبي من خلال ما تقدّم لفت انتباه القراء و الدارسين إلى إنتجاته الابداعية و البحثية، و دفعهم إلى الاهتمام بها

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

ألقت الشرطة الكويتية الخميس 2 ماي 2024 القبض على المذيعة ومقدمة البرامج المشهورة حليمة بولند لتنف
22:11 - 2024/05/02
أعلن مدير المعهد الوطني للتراث طارق البكوش أن مشروع تهيئة المتحف الوطني بقرطاج مموّل من اللجنة ال
17:03 - 2024/05/02
أسدل الستار الليلة الماضية على فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن التي انتظمت من 27 أفر
15:45 - 2024/05/02
توفي صباح اليوم الخميس2 ماي 2024  بمدينة اكودة الممثل القدير والمناضل عبد الله الشاهد عن سن تناهز
11:26 - 2024/05/02
من المجهودات الكبيرة اللافتة في الإعلام العمومي لفت انتباهي المجهود الكبير الذي يقوم به الإعلامي
09:07 - 2024/05/02
لا شكّ بأنّ غياب مشروع ثقافيّ وطنيّ يعمل وفقا لاستراتيجيّات محدّدة في كلّ القطاعات الثّقافيّة له
08:29 - 2024/05/02