"حكايا باريس" لعبد القادر بن الحاج نصر 2\3: حرارة الأنتماء في أدب بالحاج نصر

"حكايا باريس" لعبد القادر بن الحاج نصر 2\3: حرارة الأنتماء في أدب بالحاج نصر

تاريخ النشر : 18:51 - 2021/01/30

نشرنا في الجزء الاول من هذه الدراسة لمجموعة "حكايا باريس" تعريفا بكاتبها عبد القادر بن الحاج نصر ولاحظنا امتلاكه لفنيات كتابة القصة القصيرة رغم ابتعاده عنها لسنوات عديدة، و انشغاله بكتابة الرواية .. وهذا الجزء الثاني من هذه الدراسة: و لتقريب مناخات قصص هذه المجموعة «حكايا باريس » إلى القارئ، أرى أنه من المفيد التوقّف عند أوّل فقرة، و آخر فقرة في القصّة الأولى للمجموعة، التي جاءت حاملة لعنوان (بيّة).

و قبل تقديم هاتين الفقرتين ، تجدني منصاعا الفقرتين ، إلى الإيحاء الذي يمنحه لنا هذا العنوان. فهذه التّسمية (بيّة) كانت و لا تزال تُطلق في أعمالنا الفنية، للتعريف بأن القصد من الكلام يعني تونس الوطن. تمامًا مثلما أجمعت الاعمال الفنية في مصر على إطلاق اسم ( بهيّة) حين يرومون الحديث عن مصر الوطن. لذلك أقدمت على مطالعة أحداث هذه القصّة و أنا مسكون ومقيد بهذا التاويل ، وهو الامر الذي ، سيُؤثّر حتمًا في الاستنتاجات التي سأتوصّل إليها لاحقًا. تنطلق أحداث هذه القصّة بهذا الوصف الدّقيق و الذي كان كما يلي: « تباشير الفجر… تباشير و الهلال يطفو و يغيب في تجاعيد سحب عابرة… تباشير و الفجر يتلألأ في وشاح من أوراق الورد. استفاقت بيّة من النّوم، أزاحت الغطاء القطنيّ و تمطّت و نهضت. تململ زوجها بوزيّان فانقلب على جبينه و احتضن الوسادة و عاد إلى النّوم. » ( ص: 5) و بناءً على التّأويلات التي بيّنتها سابقًا ، و ولجت بها عالم أحداث هذه القصة، شعرت أنّ الكاتب وصف لنا علامات طلوع الفجر على الوطن تونس(بيّة) مستعدّا للانطلاق نحو الضّيعات الفلاحيّة قصد الاجتهاد و العمل يُصوّر لنا المشهد إذًا، استفاقة (بيّة) من النوم و عزمها على العمل، بينما ينقلب زوجها بوزيّان، في ذات اللّحظة على جبينه ليحتضن الوسادة و يعود إلى النّوم. فهل نفهم من هذا انتصارا للمرأةالكادحة في الحقول، مقابل انغماس الرّجل في النّوم و الاقتصار بعد ذلك على ارتياد المقهى للعب الورق؟ أم إنّ تباشير الفجر تهلّ علينا يوميّا ، و كسلنا يلهينا عنها، بالعودة إلى النّوم؟ طبعًا تبقى هذه مجرّد تأويلات لنصّ أدبي، لأنني أشعر أنّه من حقي كقارئ البحث عن مقاصد و استنتاجات، ربما لا يوافقني فيهاحتّى الكاتب نفسه. و لنا أن نسأل في هذا الجانب: هل إنّ الكاتب الحقيقي للقصّة و العمل الفني بصفة عامّة، هو من اختار عبارات صياغتها، أم من يتوصّل إلى صدق تأويلاتها؟ الأكيد و أنّ الجواب على السّؤال لن يكون سهلًا بالمرة. لكنني أشعر أنّ كلّ الأعمال الخالدة، يُكتب لها تجديد الحياة، عادةً ببروز قراءات تأويلية جديدة لها.

لذلك أشعر أنّ الأدب يكتب عبارات جمله و فقراته المبدعون، لكن يُخلّدُه القراء المتمكنون من فك شفرات التّأويل. و أرى أنّ هذا الرأي يبقى قابلًا للنقاش إلى درجة تفنيده، لكنني مع ذلك تجدني أُقبل دومًا على مطالعة النصوص الأدبية بهذا الحسّ التّأويلي، و الذي يساعدني عادةً على فهم البعض من مقاصده. و أظنّ أنّ المقارنة بين الفقرة الأولى في القصّة التي ذكرتها سابقًا، و الفقرةالأخيرة منها سيعطي التبرير الكافي لبعض التّأويلات التي ذهبت إليها. فبعد أن تحمل لنا أحداث القصّة، خبر نجاح بيّة في كبت أحاسيسها، نجدها تُصرّح بحرقة الملتاع، و بعبارات مكبوتة: ( ساحة البيت! البيت غرفتان و غرفة و مطبخ و عتبة. تهالكت على العتبة… خنقت شهوتها في جسدها… أحاطت وجهها بكفّيها، حدّقت في الفضاء … الفضاء من سراب يلاحق بعضه بعضًا. أنّت و تأوّهت… تأوّهت ثمّ أنّت و تأوّهت.) ( ص: 13) و بسبب كل ما ذهبت إليه من تأويلات، وجدتني أتساءل و أنا أطالع عبارات هذه الفقرة: هل كانت هذه الآهات المكتومة حقيقة لبيّة زوجةبوزيّان التي تشتغل في الضّيعات الفلاحية و تضطرّ إلى القيام منذ تباشير الفجر، أم هي لا تعدو أن تكون آهات مكتومة لوطن جريح خذله أبناؤه بتهاونهم، و الكسل الذي أصابهم و جعلهم يعودون إلى النوم لحظة انبلاج الفجر؟ و مثل هذا التّأويل للنصّ القصصي، و رغم اختلافه من قراءة إلى أخرى، أرى أنّه يمنحنا بصيصًا من الأمل في الأعمال الأدبية، والتي تساهم بقسط وافر في بلورة إنسان الغد، حتّى و إن أنكر المتعنّتون هذا الدور على الأعمال الفنية بصفة عامة. فللأعمال الأدبية فعل السحر في النفوس، سابقًا و لاحقًا. أعود الآن للتّوقّف عند أقصر قصّة في مجموعة(حكايا باريس) و التي جاءت حاملة لعنوان : (البرنسيسة). و ألاحظ أوّلاً أنّ هذه القصّةجاءت في أسلوبها مختلفة عن البقية. حيث شعرت أنّها جاءت في شكل يوحي بأنّها أقرب إلى لوحة بوح لإشراقة حبّ مكتوم. فقد شعرت أنّهاصيغت بلغة شاعرية مكثّفة.

انطلقت أحداث هذه القصة بجملة أولى، تردّدت لاحقًا بصياغة مختلفة. فنقرأ في بداية القصة: ( كم تتوالد قوافل النّساء من بعضها و كم تتوالد قوافل الرّجال!) ( ص: 55) ثمّ تُعاد هذه الجملة لاحقًا بصياغة مختلفة، تُلخّص تقريبًا تقدّم الأحداث، حيث جاءت الجملة كما يلي: ( و تمرّ قوافل النّساء و تمرّ قوافل الرّجال و لا يتوقّف الزّمن.) ( ص: 56 ) و يلاحظ معي القارئ أنّ المعنى يتغيّر من موقع إلى آخر، لتوصلنا الأحداث إلى تلك الجملة الأخيرة في هذا النصّ و التي أراد لها الكاتب أن تكون خاتمة لأحداث قصته، بينما شعرت أنها تمنحنا فضاءات جديدة للانفتاح و التواصل. حيث جاءت هذه الجملة الأخيرة في أسلوب وصفي: ( مدّ يده و مدّت يدها، نظر في عينيها و نظرت في عينيه، اقترب و اقتربت، سحبت يدها و سحب يده، ابتعدت و ابتعد لكنّ قلبه ظلّ يخفقلها و ظلّ قلبها يخفق له.) ( ص: 57 ) و في هذا المجال تجدني أتساءل: هل إنّ الأمل يبقى موكولاً لخفقان القلبين، أم لحرقة الهجر و البعاد الذي تسبّب فيه الخجل الطّاغي على شخصيتهما. فالكاتب اختار الخاتمة بالطريقة التي ارتاح لها، لكنني أشعر أنّ القصّة تمنحنا عدّة إمكانيات لختم الحدث أو فتح أبواب جديدة لتواصله.

و حتّى لا يكون كلامي اعتباطيًا، تجدني أركّز حكمي على ذاك الاعتراف الذي جاء على لسان الرّاوي، حيث قال: ( … إنّها هي المرأة منذ أن وجدت المرأة على الأرض بما أبدعت و ما وهبت، ما أعطت و ما أخذت ما أحبّت و ما كرهت، ما أحيت و ما قتلت.) ( ص: 56) . فالكاتب يتحدث عن لحظة اكتمال سكنت الرّاوي، لذلك أشعر أن ابتعادهما، لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ تعبيرًا خفيًا عن مواعيد لاحقةحتمًا ستجمعهما.

و لأنّني، كنت و لمّا أزل، أثناء مطالعتي لأعمال عبد القادر بن الحاج نصر ، أتطلّع إلى تلمّس صورة الكاتب في أعماله، وجدتني أتوقّف كثيرًا عند متابعة أحداث قصّة ( عاشقة) و التي انطلقت أحداثها بوصف يُغري القارئ بزيارة هذه المقهى الواقعة دون شكّ في مدينة ( بئرالحفي) التي عشقها الكاتب و سكنته، مثلما أبرزت ذلك في بداية هذه القراءة. ينطلق سرد الأحداث كما يلي: ( ككلّ يوم قبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود يؤم الرّجل المقهى فهو الزّائر الأوّل قبل الجميع …) ( ص : 137) و يتأكد حدسنا، بأن المقصود بهذا الوصف ما هو في نهاية الأمر إلاّ الكاتب نفسه، ذاك التّصريح اللّاحق و الذي جاء فيه: ( الرّجل مفتون بالكتابة. الرّجل لا تزعجه سحابة الدّخان الملتفّة حوله و لا أصوات الحرفاء و حمّى التّعليقات السّياسيّة، يحيط بنفسه سياجًا من اللّامبالاة بمايدور حوله إذ تمتزج حواسّه كليّا بالصّور التي يحاول أن يجسّمها في نصوص مرسومة بقلم الحبر.) ( ص: 137).

فالكاتب و دون قصد ربّما، نجده يعترف أنّه بكتاباته يُقدم على رسم لوحة فنية بقلم الحبر، تكون قادرة على تبليغ و تسجيل تفاصيل الحياة اليومية في تلك الربوع، و التي أشعر أنه نجح فيها دون الوقوع في فخّ الشّوفينية، أو التّمجيد للنعرات الجهوية. فالكاتب يتحدث عن(بئر الحفي) كنقطة انطلاق نحو البحث عن مشاغل الإنسان بصفة عامة. و هذا مشروع و محبّب في الأعمال الفنية بصفة عامة، بما أنّ هذاالاختيار غالبًا ما يُضفي على العمل المنجز الكثير من الصّدقية في الأحداث، إلى جانب تلمّس حرارة الانتماء، و التّأصّل في الانتماء.

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

- يقال: تقدمٌ مطَّرِدٌ، وتعليم مختلِط، وجندي مرتزِق، وشيء مزدوِج؛ ولا يقال: مطَّرَد ولا مختلَط ول
13:19 - 2024/05/18
تم مساء يوم الجمعة 10 ماي الجاري برواق كنيسة سانت كروا بالمدينة العتيقة التابع لبلدية تونس افتتاح
13:19 - 2024/05/18
بقدر الحب يكون الألم...وبقدر الغدر يكون الوهم !
13:19 - 2024/05/18
هي عديدة الأعمال الفنية التي أثثت زوايا الرواق بمدينة سوسة جوهرة عبر المعرض الجماعي:» عوالم - فنو
13:18 - 2024/05/18
تتواصل هذه الأيام بمدينة بوحجلة من ولاية القيروان فعاليات الدورة التاسعة للمهرجان العربي لفنون ال
13:18 - 2024/05/18