مع الشروق : أوروبا ... وأفول المظلة الأمريكية
تاريخ النشر : 07:00 - 2025/12/16
لم تعد الخلافات بين الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا مجرد تباينات ظرفية في ملفات عابرة، بل باتت تعكس تحوّلًا عميقًا في بنية التحالف الذي حكم الضفتين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي هاجم فيها أوروبا واصفًا مساراتها بـ»الخطِرة» وقادتها بـ»الضعفاء»، ليست زلة لسان ولا خطابًا انتخابيًا عابرًا، بل تعبير مكثّف عن رؤية أمريكية جديدة ترى العالم من زاوية المصلحة الضيقة، وتتعامل مع الحلفاء بوصفهم أعباء لا شركاء.
كما أنها تبين دخول الولايات المتحدة الامريكية في حالة انكفاء، تكتفي فيه فقط بضمان أمنها ومصالحها الاقتصادية والجيوسياسية على حساب أي طرف آخر حتى وإن كان أقدم حليف لها.
على مدى عقود، قامت الشراكة الأمريكية-الأوروبية على معادلة واضحة: مظلة أمنية أمريكية مقابل التزام أوروبي بالنظام الليبرالي الغربي وقيادته الأمريكية، غير أن هذه المعادلة بدأت تتآكل تدريجيًا، إلى أن جاء الخطاب «الترامبي» ليعلن، بصراحة فظة، ما كان يُدار همسًا في أروقة واشنطن: أمريكا أولًا، حتى ولو كان الثمن إضعاف أقرب حلفائها.
في جوهر الخلاف، تتقاطع عدة ملفات: الهجرة، و الإنفاق الدفاعي، والعلاقة مع الصين وروسيا، وحتى تعريف القيم الغربية نفسها، إذ ترى واشنطن أن أوروبا تعيش «ترفًا استراتيجيًا»، تعتمد فيه على الحماية الأمريكية دون أن تتحمل كلفتها، بينما تنشغل بنقاشات حقوقية وثقافية لا تضع الأمن القومي في صدارة الأولويات.
في المقابل، تنظر عواصم أوروبية عديدة إلى الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها شريكًا بات مزاجيًا، سريع الانقلاب، مستعدًا للتخلي عن التزاماته التاريخية متى تعارضت مع حسابات داخلية أو اقتصادية آنية.
ولعل ردّ المستشار الألماني فريدريش ميرتس، حين أعلن أن «عصر السلام العالمي الأمريكي قد انتهى»، يختصر هذا الإدراك الأوروبي المتنامي: لم تعد واشنطن حارسة للنظام الدولي، بل لاعبًا يسعى لتعظيم مكاسبه حتى على حساب استقرار هذا النظام، وهو تحوّل لا يخص ترامب وحده، بل يعكس تيارًا أوسع في السياسة الأمريكية، يرى في التحالفات التقليدية عبئًا ماليًا واستراتيجيًا.
أمام هذا الواقع، تبدو أوروبا أمام مفترق طرق تاريخي، يعني أن الاستمرار في الاتكال على المظلة الأمريكية لم يعد خيارًا آمنًا، لا سياسيًا ولا استراتيجيًا، والمطلوب اليوم ليس قطيعة مع الولايات المتحدة، بل إعادة تعريف للعلاقة على أساس الندية وتقاسم الأعباء، وهذا يمرّ حتمًا عبر بناء قدرة دفاعية أوروبية مستقلة، وتمويل أمني ذاتي، ورؤية استراتيجية موحّدة تقلّل من الارتهان للقرار الأمريكي.
إن انفراط عقد التحالف الأمريكي-الأوروبي لا يعني نهاية الغرب، لكنه يؤذن بنهاية مرحلة وبداية أخرى، مرحلة تُطالب فيها أوروبا بأن تتحمّل مسؤولية أمنها ومصيرها، لا بوصفها تابعًا في ظل قوة عظمى متقلّبة، بل كفاعل دولي راشد، يدرك أن زمن الحماية المجانية قد ولّى، وأن الاستقلال الاستراتيجي لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة تاريخية.
بدرالدين السياري
لم تعد الخلافات بين الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا مجرد تباينات ظرفية في ملفات عابرة، بل باتت تعكس تحوّلًا عميقًا في بنية التحالف الذي حكم الضفتين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي هاجم فيها أوروبا واصفًا مساراتها بـ»الخطِرة» وقادتها بـ»الضعفاء»، ليست زلة لسان ولا خطابًا انتخابيًا عابرًا، بل تعبير مكثّف عن رؤية أمريكية جديدة ترى العالم من زاوية المصلحة الضيقة، وتتعامل مع الحلفاء بوصفهم أعباء لا شركاء.
كما أنها تبين دخول الولايات المتحدة الامريكية في حالة انكفاء، تكتفي فيه فقط بضمان أمنها ومصالحها الاقتصادية والجيوسياسية على حساب أي طرف آخر حتى وإن كان أقدم حليف لها.
على مدى عقود، قامت الشراكة الأمريكية-الأوروبية على معادلة واضحة: مظلة أمنية أمريكية مقابل التزام أوروبي بالنظام الليبرالي الغربي وقيادته الأمريكية، غير أن هذه المعادلة بدأت تتآكل تدريجيًا، إلى أن جاء الخطاب «الترامبي» ليعلن، بصراحة فظة، ما كان يُدار همسًا في أروقة واشنطن: أمريكا أولًا، حتى ولو كان الثمن إضعاف أقرب حلفائها.
في جوهر الخلاف، تتقاطع عدة ملفات: الهجرة، و الإنفاق الدفاعي، والعلاقة مع الصين وروسيا، وحتى تعريف القيم الغربية نفسها، إذ ترى واشنطن أن أوروبا تعيش «ترفًا استراتيجيًا»، تعتمد فيه على الحماية الأمريكية دون أن تتحمل كلفتها، بينما تنشغل بنقاشات حقوقية وثقافية لا تضع الأمن القومي في صدارة الأولويات.
في المقابل، تنظر عواصم أوروبية عديدة إلى الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها شريكًا بات مزاجيًا، سريع الانقلاب، مستعدًا للتخلي عن التزاماته التاريخية متى تعارضت مع حسابات داخلية أو اقتصادية آنية.
ولعل ردّ المستشار الألماني فريدريش ميرتس، حين أعلن أن «عصر السلام العالمي الأمريكي قد انتهى»، يختصر هذا الإدراك الأوروبي المتنامي: لم تعد واشنطن حارسة للنظام الدولي، بل لاعبًا يسعى لتعظيم مكاسبه حتى على حساب استقرار هذا النظام، وهو تحوّل لا يخص ترامب وحده، بل يعكس تيارًا أوسع في السياسة الأمريكية، يرى في التحالفات التقليدية عبئًا ماليًا واستراتيجيًا.
أمام هذا الواقع، تبدو أوروبا أمام مفترق طرق تاريخي، يعني أن الاستمرار في الاتكال على المظلة الأمريكية لم يعد خيارًا آمنًا، لا سياسيًا ولا استراتيجيًا، والمطلوب اليوم ليس قطيعة مع الولايات المتحدة، بل إعادة تعريف للعلاقة على أساس الندية وتقاسم الأعباء، وهذا يمرّ حتمًا عبر بناء قدرة دفاعية أوروبية مستقلة، وتمويل أمني ذاتي، ورؤية استراتيجية موحّدة تقلّل من الارتهان للقرار الأمريكي.
إن انفراط عقد التحالف الأمريكي-الأوروبي لا يعني نهاية الغرب، لكنه يؤذن بنهاية مرحلة وبداية أخرى، مرحلة تُطالب فيها أوروبا بأن تتحمّل مسؤولية أمنها ومصيرها، لا بوصفها تابعًا في ظل قوة عظمى متقلّبة، بل كفاعل دولي راشد، يدرك أن زمن الحماية المجانية قد ولّى، وأن الاستقلال الاستراتيجي لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة تاريخية.
بدرالدين السياري