حين تتهاوى حقائق التّاريخ في البلاد

رواية "أحاديث جانبية" لرياض خليف(2\3)

حين تتهاوى حقائق التّاريخ في البلاد

تاريخ النشر : 21:16 - 2021/02/27

نشرنا امس الجمعة الجزء الاول من هذه الدراسة وقد تناول فيها الكاتب يوسف عبد العاطي عتبات الرواية ويواصل في هذا الجزء التوغل في ثناياها:    

بعد هذا النصّ المختصر و المكثّف، اختار الكاتب تضمين روايته تصديرين مختصرين و مكثّفين. فكان التّصدير الأوّل للشّهيد فرحات حشّاد و جاء فيه: ( أحبّك يا شعب تونس الذي امتحنك الدّهر و امتحنته…) (ص : 13) 
أمّا التّصدير الثّاني فكان للشّاعر مظفر النواب و الذي قال فيه:( يا ملك الثّوار أنا أبكي بالقلب لأنّ الثّورة يزنى فيها، و القلب تموت أمانيه…)  ( ص : 13)
و يلاحظ معي القارئ الدقّة التي تعامل بها الكاتب في كلّ اختياراته، حيث نلاحظ ذاك التّناسق في الدّلالات و الذي توفّره كل هذه العتبات، قبل الاطلاع على أحداث الرواية. و هذا يدلّ أساسًا على درجة التّركيز التي رافقت الكاتب طيلة اشتغاله على هذا العمل. كما يُبيّن لنا هذا الأمر أيضًا، المكانة التي يعطيها الكاتب لقارئ نصوصه بصفة عامة. 
و أشير إلى أن كلّ هذه الأسئلة و الملاحظات الّتي ذكرتها، و بقدر اللّهفة التي طبعتها في نفسي، جعلتني أتهيّأ للانطلاق في متابعة الأحداث بريبة كبيرة. فهل سينجح الكاتب في جعلي عنصرًا مساهمًا في السّرد لتلبسني إحدى الشّخصيات الحدثيّة و تدفعني إلى جلد الذات و محاسبة مواقفي من هذا الواقع المزري الذي أصبحنا نحياه بعد هبوب رياح الثّورة؟ أم إنّني سأنجح في الإفلات من تلك السّطوة لأجد نفسي متابعًا سلبيًا لكلّ المواقف و الآراء، و كأنّ ما يحصل لغيري قد لا يصيبني أبدًا.
و قبل التوقّف عند بعض جمل و فقرات الرّواية أرى أنه من المفيد التّوقّف عند كثرة التّصادير التي اعتمد على ذكرها في مستهلّ الفصول. حيث أشير مثلًا إلى أنّ سبعة فصول من جملة إحدى عشرة ضمّنها الكاتب تصادير. 
ففي الفصل الأول و الرّابع اختار الكاتب مقاطع شعرية لمظفر النواب. أما الفصل الثالث و الخامس فقد استهلّها بمقاطع مختارة من روايته هو ذاته « علّالة الزّيني ». بينما استهل الفصل الثّاني بمقطع شعري لمعين بسيسو ، أمّا الفصل الثّامن فقد صدّره الكاتب بمقطع قصير لبدر شاكر السياب، ليكون تصدير الفصل التّاسع للرّاحل محمد الصغير أولاد أحمد. لتشُذّ أربعة فصول فقط عن عادة التّصدير و هي السّادس و السّابع و العاشر و الحادي عشر و هو الأخير. 
و هنا أشير إلى أن كثرة هذه التّصادير كانت مقلقة بالنّسبة لي كقارئ، حيث شعرت أنّها كثيرًا ما ساهمت في تشتيت الانتباه، خصوصًا حين شعرت أنّها جاءت لتعوّض السّرد الرّوائي لحظة انسياب الأحداث، و هذا ما أشعرني باتكاء الكاتب على هذه المقاطع لتبليغ بقية المواقف عوض التّركيز على صياغة بعض الفقرات الإضافية في روايته و التي تمنحنا رؤيته الخاصة للأحداث. 
فقد شعرت بأن أغلب المقاطع التي تمّ اختيارها كانت تحيلنا على مفاهيم و مواقف مختلفة عن مقاصد رواية (أحاديث جانبية )؛ و يحصل ذلك خاصةً حين نعيد تلك المقاطع إلى نصوصها الأصلية. دون أن أنكر على الكاتب المجهود الذي بذله في الاختيار  و حسن التّوظيف ربّما. 
بعد الوقوف و الإشارة إلى كلّ هذه العتبات و الملاحظات التي استلهمتها من رواية « أحاديث جانبية »، أرى أنه من المفيد اختيار بعض الجمل و الفقرات من هذا العمل، قصد تقريب مناخات الكتابة الأدبية لدى رياض خليف محاولًا من خلال تلك النّماذج و المقارنات، تلمّس أهمّ المميّزات الفنيّة و الابداعية التي ينفرد بها، أو يُتقن ممارستها. 
و بعيدًا عن ذكر تصادير الفصول و البحث عن مدى تطابق معانيها مع الأحداث، ارتأيت تقديم الفقرة الأولى من الرّواية للوقوف على أسلوبها و محاولة مقارنة ما تضمّنته من أخبار مع ما ورد في الفقرة الأخيرة من الرّواية، و هذا قد يساعد أو يغري القارئ بالمطالعة، و ذاك هو مطمحي.
انطلقت أحداث الرواية هكذا: 
( اشرأبّت الأعناق تتابع السّيّارة و تحاول أن تقتفي أثرها و تعرف سرّها و رنّت الهواتف تستطلع الأمر بحيرة و فضول.
قال بعضهم:  «لعلّها تستبق زيارة مسؤول كبير »، و عقّب البعض الآخر ساخرا « من سيأتي الآن و الانتخابات ما زالت بعيدة؟ »
العمدة نفسه فاجأه الخبر. تذمّر و هو يردّ على هاتف أحد رجاله الذين لم تغيّرهم الثورة، مستغربا و نافيا علمه بها و متحسّرا على زمن كان فيه الآمر الناهي، يرافق سيارات الحرس الوطني و مرشدي الشؤون الاجتماعية و الفلاحية و التنظيم العائلي و يتصدّرها. « لم تكن نملة تتجرّأ على الدّخول دون علمي و دون مرافقتي، أمّا اليوم فسيّارات تأتي و أخرى تغادر…انفلتت الأمور …)   ( ص: 15)
يلاحظ معي القارئ أنّ هذا الاستهلال الحدثي، استغلّ فيه الكاتب الكثير من التّقنيات المسرحية، حيث وصف المشهد العام بدقّة متناهية، محاولًا من خلال الوصف تقديم البعض ممّا تُخزّنه الشّخصيات من مشاعر أو مواقف خفيّة أيضًا. كما أشعر أن الكاتب تمكّن من خلال هذه الفقرة من تعريف القارئ بالموضوع الأساسي الذي ستتركّز عليه الأحداث . 
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

أعلن منتدى أدب الطفل عن انعقاد الدورة 16 للجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل التي ينظمها بالشرا
07:00 - 2025/05/06
ما أشقّ أن تكتب عن واحد من الجيل المؤسس بحجم المربي الفاضل والمرحوم بإذنه تعالى سليّم غربال اجتمع
07:00 - 2025/05/06
أسدل الستار مساء السبت 03 ماي الماضي على فعاليات الدورة 23 لمهرجان محمد عبد العزيز العقربي للمسرح
07:00 - 2025/05/06
 أوضح رئيس لجنة تنظيم الدورة 39 لمعرض تونس الدولي للكتاب، الأستاذ محمد صالح القادري، أنّ البلاغ ا
07:00 - 2025/05/06
نزل مساء الأحد ستار الدورة 38 من مهرجان الربيع لمسرح الهواة بحمام سوسة بعد أربعة عروض مسرحية جمعت
07:00 - 2025/05/06
"الصوت موهبة السماء فطائر يشدو على غصن وآخر ينعب" بيت شعري للأخطل الصغير كان دائما يردده الإعلامي
07:00 - 2025/05/05