مقدمات للمطر.. عن متاهة الشباب وصمت الكهول

مقدمات للمطر.. عن متاهة الشباب وصمت الكهول

تاريخ النشر : 17:02 - 2021/01/30

احتجاجات الشباب التي شهدتها مدن وجهات عديدة خلال الأيام الأخيرة في تونس والتي تزامنت مع الذكرى العاشرة للثورة فجرت قراءات وتفسيرات وتأويلات عديدة شغلت اهتمام البرلمان وطفحت بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ومجمل مكونات الفضاء العام والفاعلين فيه من نخب وسياسيين ومختصين في الشأن الشبابي والاجتماعي.

المحتجون من هذه الفئات من الأطفال والمراهقين اختاروا الليل زمنا لاحتجاجاتهم وشعاراتهم المعبرة عنهم معلنين رفضهم للوضع السائد مؤكدين انتماءهم لمجتمع مواز له رموزه ونماذجه وتوجهاته. عديدة هي القراءات التي حاولت استقراء هذه الاحتجاجات التي فاجأت حدتها المجتمع التونسي تشخيصا لأسبابها وحفرا في إيجاد تفسير وحلول لها. هذه المقدمات تسعى إلى تقديم قراءة خاصة لسؤال الشباب التونسي تستند إلى إحصاءات ومعطيات رسمية من بينها تلك التي تضمنها المسح الوطني حول الشباب الذي أنجزه المرصد التونسي للشباب سنة 2018، ومرجعيات دراسية وبحثية متخصصة في دراسة علاقة الشباب بالشأن العام في تونس بعد عشر سنوات من ثورة الكرامة في ظل ما شهده المجتمع التونسي من تحولات وتغييرات أهمها التوجه الاستراتيجي والدستوري نحو دعم السلطة المحلية وإرساء اللامركزية.

الملاحظ أن جل الأدبيات تجمع على اعتبار الشباب التونسي ثروة بشرية (حوالي ثلثي السكان) يتحتم إسنادها وتأطيرها وتمكينها في كل الخيارات التنموية، ولكن المفارقة تكمن في أن تعاطي مختلف الفاعلين مع فئة الشباب مازال مترددا ومتذبذبا، حيث أن حوالي مليون شاب تونسي اليوم هم خارج تغطية الدولة ومازال أغلب الشباب (62%) لا يثق فيها وفي مؤسساتها، ويشعر بالتهميش والإقصاء وانسداد الأفق. والواقع اليوم - كما يرى مدير البحوث والدراسات بالمرصد التونسي للشباب أنور يحيى - أن واقع التعاطي مع الشأن الشبابي فيه مشاكل قد «نختلف في توصيفها واستقرائها وفي فهم أسبابها ومسبباتها، وفي تبخيسها وتسطيحها أو في تضخيمها بناء على القراءة المعتمدة في ذلك، سواء كانت من مؤسسات رسمية أو هياكل المجتمع المدني وحتى التنظيمات السياسية أو النقابية تسعى في مجملها لاسترضاء هذه الفئة واستمالتها، وهو ما لن يتحقق إلا متى تحولت وترجمت هذه الأمنيات والرغبات إلى رؤى وسياسات».

من الوهلة الأولى يمكن الجزم بأن واقع الشباب التونسي لن يتحول إلى «فرصة تنموية» ما لم يترسخ الشأن الشبابي في استراتيجيات الدولة. بل على العكس من ذلك فقد أصبح الشباب مشكلة متعددة الأبعاد عمقت تراخي الدولة في التعاطي معها وتحويلها الى طاقة منتجة تسهم في مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشود. لقد فشل مجتمع الكهول في الإنصات إلى الشباب وقد أكدت الاحتجاجات الأخيرة أن الديمقراطية التي تحققت في تونس منذ الثورة إلى الآن في مجالات عديدة لم تستوعب مطالب الشباب الذين يرون أن المنظومة لم تعترف بهم.

وقد لاحظ وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي أمام البرلمان في جلسة المساءلة أن «التحركات الأخيرة التي رافقتها عمليات شغب وعنف وسرقة تؤشر للإعياء الذي أصبحت عليه الديمقراطية عشر سنوات من الثورة وهو ما يتطلب تقييما وتقويما». سؤال الأسباب وان كان يدين سياسات الحكومات المتعاقبة إزاء الشباب على مدى 10 سنوات، فقد امتد الى مسؤولية العائلة والمدرسة وما يحدث في الفضاء العام والمجتمع ووسائل الاعلام من عنف وفوضى وانحدار أخلاقي. وفي تفصيل ذلك تظل الأسرة المؤسسة الأولى في التنشئة الاجتماعية ولكنها ليست الوحيدة، اذ تنضاف اليها المدرسة والمجتمع بدءا بمؤسساته التعديلية من دور ثقافة ودور شباب وجمعيات مدنية وصولا الى النقابات والأحزاب السياسية، وكذلك وسائل الاعلام والاتصال الجماهيرية. وفي الحالة التونسية تؤكد مؤشرات عديدة إرهاقا بارزا لحِق بمؤسسة الأسرة وحدَ من دورها التقليدي.

كما يظل التسرب المدرسي المبكر معضلة اجتماعية حادة، ذلك أن مائة ألف طفل تونسي يغادرون المدرسة كل سنة مما يشكل مؤشرا مفزعا لنصبح حيال عدد مهول من أطفال ينفلتون من مؤسستين مهمتين للتنشئة أي الأسرة والمجتمع ويجدون أنفسهم في الشارع بكل تناقضاته وتحت تأثير جماعات تسيطر عليه وهي جماعات تظل فاعلة إيجابا وسلبا في تشكيل هويات جديدة لهؤلاء الشباب الذين استقطبهم فضاء الشارع.

وتبعا لمعطيات رسمية للمرصد التونسي للشباب فان هذه الفئة (من 15 – 20 سنـة) التي تحتـج اليـوم في الشـارع ليلا منها 11.5 % فقط تهتم بالشأن السياسي و6.4% منخرطة في المجتمع المدني وأقل من 3 % انخرطت فعلا في النشاط السياسي، ولا يتجاوز عدد من عبر منهم عن رغبته في المشاركة السياسية أو الانخراط في الشأن العام نسبة 8 %. بل إن عدد من يتابع أنشطة الأحزاب والجمعيات المدنية لم يتجاوز 2 %. لقد اقر 79.3 % من هذه الفئة صراحة بأنهم غير معنيين بالسياسة وغير منخرطين في العمل الجمعياتي ولا رغبة لديهم في المشاركة في الانتخابات القادمة بسبب رفضهم للمنظومة السائدة برمتها.

وعلى ما تقدم فإن هذه الفئة كما تؤكد ذلك أستاذة علم الاجتماع فتحية السعيدي وغيرها لم تعد لها صلات تذكر بالدولة وقد خالفت سلوكياتها وردود أفعالها خلال هذه الاحتجاجات-بما أبدته من عنف وخروج عن السيطرة -الموروث المجتمعي التقليدي مبتدعة أشكالا وأنساقا سلوكية واجتماعية بديلة تعبر من خلالها عن تمثلات جديدة لم يسبق لها مثيل هي نتاج تهميش عشر سنوات من قبل الجميع وإقصاء لها وعدم إصغاء لمشاغلها وطموحاتها.

وها هي اليوم تسكن الشارع لتمارس كل أنواع العنف «غير المألوف» شكلا وزمنا. المنتظر، وقد أضحى سؤال الشباب في تونس اليوم مشغلا هاما من مشاغل الدراسات الاجتماعية والشأن العام باعتباره يمثل العنصر الأساسي في الحراك الاجتماعي الذي أدى الى سقوط النظام السابق، والذي لا تزال تحكم فئات واسعة منه حدة الاقصاء والبطالة والتهميش في غياب حلول سياسية واقتصادية واضحة، أن تباشر الدولة دراسة هذه المعضلة ووضع الحلول لها تربويا وثقافيا واجتماعيا مع تشريك هذه الفئة من خلال الحوار والاصغاء لمقترحاتها وتصوراتها، بديلا عن الحلول الامنية.

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

وجّهت وزارة التربية، أمس الأربعاء 1 ماي 2024، دعوة إلى تشكيل لجان بيداغوجية جهوية تقوم بالتنسيق و
07:00 - 2024/05/02
وقعت وزيرة الاقتصاد والتخطيط والبنك الإسلامي للتنمية إعلان تمويل سيقدم بمقتضاه البنك 60 مليون دول
07:00 - 2024/05/02
أكد وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي وجود اقبال كبير على القروض التي تسندها الصناديق الاجتماعية
07:00 - 2024/05/02
دعا الأمين العام لاتحاد عمال تونس اسماعيل السحباني بتوحيد نظام الصناديق الاجتماعية و جرايات المتق
07:00 - 2024/05/02
توفي، صباح امس الأربعاء، معتمد القصرين الشمالية عصام خذر، بمستشفى الأمن الداخلي بتونس، متأثرا بإص
07:00 - 2024/05/02
أشرف رئيس الحكومة السيّد أحمد  الحشاني ، بقصر الحكومة بالقصبة، على اجتماع اللجنة العليا للانتاج ا
07:00 - 2024/05/02
 لم يكن إعلان مراد بالأسود مدير عام البحث العلمي بوزارة التعليم العالي بأن تونس تحتل المرتبة الثا
07:00 - 2024/05/02