الدكتور فتحي ليسير: الاستسلام للفوضى ومهادنتها عطب اجتماعي خطير

الدكتور فتحي ليسير: الاستسلام للفوضى ومهادنتها عطب اجتماعي خطير

تاريخ النشر : 13:51 - 2019/09/25

   الأزمة في تونس اليوم لا تؤذن بزوال قريب .إنها أزمة شاملة راسخة الأركان قوية البنيان. و مظاهر هذه الأزمة عديدة متنوعة متضافرة متواشجة يأخذ بعضها برقاب بعض كما يقال.المشهد مشوّش يلفّه ضباب كثيف لا أحد يستطيع أن يشخّصه تشخيصا دقيقا مهما أوتي له من ذكاء و نباهة ,و مهما توافر لديه من قدرة على التنبؤ و الاستباق.هذه حقائق واضحة  لا نعتقد أن هناك من يجادل فيها أو يماري. و مع ذلك ( و رغم ذلك ) فإننا لا نجاري المتشائمين السوداويين حين يذهبون إلى أن الوطن ينحدر إلى الحضيض بهدوء و هوان و هوينا . صحيح أننا نعيش الآن و سنعيش في المستقبل المنظور أياما صعبة و نحن في فلك حلقة دوّارة رهيبة أو دوامة عاتية أو في عين العاصفة كما يقول إعلام هذه الأيام ’ و لكن سوف يراجع الأمل اليائسين و سيعاود الرجاء المتشائمين آجلا أم عاجلا ’ شرط أن نعمل و نأمل . لزام علينا معشر التونسيين ألاّ نستسلم لليأس حتى و إن بلغت الأزمة شأوا عظيما, و أن ننتظر شيئا ايجابيا في حياتنا القادمة و إلاّ فإنها ستنقلب إلى فراغ مدمّر. نعم سننتظر.إن الذين ينتظرون دورهم في طابور الموتى لأفضل من الذين لا ينتظرون شيئا أبدا ..
***
   سيطول بنا القول لو مضينا نعدّد مظاهر الأزمة المذكورة و نعرض لتجلياتها و نتوقف عند لائحة الأشياء المحيّرة الممضّة التي تنغّص على التونسيين عيشهم  و تكدّر صفوهم.سنقصر كلامنا في إطار هذه الورقة المحددة الهدف على أمر نعتبره محيّرا حقا ’ لا شك أنه خالج أو استوقف غيرنا من التونسيين ’لاسيما المتخصّصين في علم النفس الاجتماعي أو في سوسيولوجيا السلوكيات الاجتماعية . مؤدى هذا  الأمر و مجمّه أن مظاهر الفوضى التي يرسف فيها الشارع التونسي ( و شتّى مظاهر الانفلات و العشوائيات التي هي من صميمها ) منذ أكثر من ثماني سنوات  ما عادت تكرب نفوس التونسيين كثيرا أو تثير أعصابهم أو تلهب دماءهم مثلما كان الحال في السنوات القليلة الفائتة . و هذا أمر في منتهى الخطورة و هو يستدعي من المجموعة الوطنية دق نواقيس الخطر بسرعة و دون كلل .
   ماذا جرى للتونسيين ؟ ماذا دهاهم ؟ هل أعيتهم الحيلة و الوسيلة فتصالحوا مع الفوضى صاغرين و طبّعوا مع اللانظام و انفلاش الشارع ؟ هل هادنوا الرعونة و استمرؤوها ؟ هل ألفوا التسيّب و استبطنوه ؟ لنعد قليلا إلى الوراء لنربط ما سبق بما سيأتي . كلّنا يتذكّر تلك الصور المشرقة عن بلادنا التي رأيناها خلال الأيام و الأسابيع الأولى التي أعقبت الثورة. صور طيّرتها وسائل الإعلام العالمية و الوسائط المعلوماتية الحديثة إلى العالم قاطبة. خلت الشوارع بعد 14 جانفي 2011 من الأمن لكن الحياة كانت تسير في انسيابية عجيبة :سوّاق السيارات يحترمون إشارات المرور في انضباط عسكري.الناس يصطفون في طوابير منظمة أمام المخابز و محطات البنزين. سكان الأحياء الشعبية , من شيب و شباب ’ ينظفون الأنهج و الشوارع في مصافاة و سلوى .شبان يحمون أمن الشوارع و الممتلكات و المؤسسات بل و ينظّمون حركة السير أحيانا . صحيح أن خبراتهم "الفنّية" في مثل تلك الأمور كانت محدودة و لكنهم زاولوا عملهم التطوّعي " بطهارة" و ايثارية لافتتين قابلها  الجميع بتفهّم و احترام و دون تذمر .و لقد قدّم هذا الشباب المتطوّع الخميرة الأولى لبديل نظيف و سخيّ لما يمكن أن تكون عليه الإدارة المحلية مستقبلا..
   و لكن هذه الصور المضيئة النيّرة سرعان ما اضمحلّت مثل فيلم قديم لتترك مكانها بعد أسابيع لتشكيلات من الانحرافات الخطيرة تأباها قيم المجتمع و قواعد العيش المشترك قبل أن يدينها القانون و ترفضها المجموعة الوطنية بل و تستفظعها استفظاعا. و بتوالي الأيام ’ و في ظل دولة رخوة إلى درجة الخور , دارت عجلة الفوضى بأقصى طاقتها لتعرف البلاد حالات تسيّب و انفلات زمام غير مسبوقة في تاريخ تونس المعاصر. و ركب غوغاء و بلطجيّة و مشبوهون , من آفاق مختلفة  موجة الاحتجاجات و مختلف التعبيرات الشعبية الرافضة و انتشروا في البلاد مستغلين مناخ الحرية و الفوضى الأمنية لمزاولة الإجرام من قطع للطرق و سرقة و اعتداء على الملك العام و تعطيل لآلة الإنتاج الخ..هكذا أصبحت تونس سدّاحا مدّاحا لعصابات إجرامية مأجورة ( ما خلا الإرهابيين ) بثّت الروع في السكان ما أفقد الثورة الكثير من ألقها و نقائها و زخمها و شعبيتها. و ظهرت في الأثناء "بلطجة ثورية" لا تهدف إلى إسقاط النظام فقط بل إلى إسقاط الدولة نفسها. كان قادة هذه الجماعات الخارجة عن القانون يطالبون بتغيير كل شيء فورا دون أدنى تأخير .هكذا بكلّ سهولة. و الغريب أن البعض من أولئك "القادة" اجتهدوا , ما وسعهم ذلك ,في تبرير الفوضى و تجميل الخروج عن القانون و تزيين الانفلات و الدفاع عن الخور بتعلّة أن للشعب جوعا للحرية . إنها حرية الفوضى التي تأكل الأخضر و اليابس كألسنة السعير. ديماغوجيا ثورجيّة بائسة أساءت أيّما إساءة إلى البلاد و جعلت الفوضى تطلق جناحيها في ربوعها بحيث تحول كل شيء حولنا إلى ركام من القبح و الدمامة.
   و لطالما استمع كاتب هذه السطور إلى مواطنين عاديين يقولون متسائلين في حيرة و قد أخذت المرارة بحلوقهم : "أين ذهب ذلك السخاء الرائع الذي غبطنا عليه الغابطون ؟ أين اختفى ذلك التضامن الجميل و روح الشهامة المؤثرة و المروؤة السمحاء و نكران الذات ؟ أين راح كل ّ ذلك ؟
***
   الفوضى هي اختلال عام من سماته الأساسية التسيّب و عدم الانضباط و الضرب بكلّ القيم و القواعد و الضوابط الأخلاقية و القانونية عرض الحائط . الفوضى هي أن تقوم جماعة بفرض قانونها على القانون. الفوضى هي أن تعجز الحكومة المكلّلة بالشرعية عن تسيير شؤون الناس بموجب صلاحياتها.
   هكذا سارت الأمور بعد الثورة - ما خلا فترات "هدنة" قصيرة من حين إلى حين - و تعاقبت الشهور لتصبح سنينا فإذا فوضى الشارع في اطّراد و إذا رقعتها في اتّساع و إذا مظاهرها في تنوّع . الهمجيّة و الرعونة تنطحك في كلّ مكان و تصدمك حالات الانفلات و عربدة الغرائز حيثما حللت :فوضى السير و الاستهتار الفاضح بقوانين المرور  ,إقامة المطبّات في الطرق كيفما اتفق ,التداعي المخيف للبنية التحتية ’ البناء العشوائي’ تحوّل الشوارع إلى مكبّات للقمامة و النفايات ’ الانتصاب الفوضوي ’ تعطيل الشغل بالمنشئات و المرافق العمومية بداع و بغير داع ,الانفلات الإداري و الاقتصادي و التربوي و الرياضي ,العنف المستشري في الفضاء العمومي بسبب و بغير سبب. عنف لم يسلم منه الأطباء و المدرّسون في مواقع عملهم و الموظفون في إداراتهم و الأمنيون في مخافرهم و حتى القضاة في محاكمهم .أعمال البلطجة و اللصوصية والاغتصاب و "البراكاجات"في وضح النهار. و باختصار :منطق الغاب و شريعة الظفر و الناب .هذا دون الحديث عن الإساءات البليغة للبيئة و المحيط .فضلا عن ذلك"الوحش الرقيق" القاتل في صمت و الذي يسمّى لامبالاة و استقالة وموت الهمّة و الضمير المهني..
   إن أخطر من الفوضى ذاتها ألاّ ننتبه إليها. و أشنع من ذلك أن نعتادها و نألفها و نطبّع معها , بل و نستسلم إليها . إن التعود على الفوضى و مهادنتها لأخطر من الفوضى نفسها. و الأنكى من كل ذلك أن نستبطنها و نتشرّبها و نعيد إنتاجها .أما مصيبة المصائب فهي التردّي بوعي و بغير وعي في تسويغها للناس .هذا هو التحدّي الذي يتعيّن علينا رفعه معشر التونسيين وألاّ نتهاون في ذلك لحظة واحدة وإلاّ فإننا سنبكي على اللبن المسكوب حين لا ينفع بكاء و لا عويل .

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

قياسنا هنا 7 أكتوبر وطوفان الأقصى واليوم الماءتان.
23:48 - 2024/04/23
تعقيبا وتعليقا على الهجوم الإيراني المتوقع على إسرائيل كردة فعل على الهجوم الصهيوني الذي أودى باس
07:00 - 2024/04/22
تزامن عيد الفطر هذه السنة في غزة مع دخول طوفان الأقصى شهره السابع وما خلّفه العدوان الصهيوني من د
07:00 - 2024/04/22
تصاعدت منذ انطلاق طوفان الأقصى وتيرة مواجهة الكيان الصهيوني من خارج فلسطين وأصبحت ظاهرة بارزة بصد
07:00 - 2024/04/21
لم يكن قصف القنصلية الايرانية في دمشق عملا عبثيا وانما عملا مخطط له هدفه خلط الاوراق اقليميا ودول
07:00 - 2024/04/21
-إذا كان الوعي من أعمال العقل،وإذا كان العقل يغلب عليه التشاؤم أحيانا،وهو يحلّل ويستقرئ ببرود وحي
09:16 - 2024/04/15
مرّت ذكرى يوم الطفل الفلسطيني الموافق للخامس من شهر افريل هذه السنة في ظروف صعبة لواقع الطفل الفل
09:16 - 2024/04/15