في خلفيات إعلان الجمهورية: براديغم" المرحليّة البورقيبيّة" مطبّقا على الفترة جانفي 1956 – جويلية 1957 (1)

في خلفيات إعلان الجمهورية: براديغم" المرحليّة البورقيبيّة" مطبّقا على الفترة جانفي 1956 – جويلية 1957 (1)

تاريخ النشر : 19:03 - 2020/07/24

في تعريفه للبورقيبيّة ، أنحى الحبيب بورقيبة باللائمة على الذين اختزلوا "طريقته"  في مقولة "خذ و طالب"  مشددا على أنها في ذات الآن نهج سياسيّ و "نظرة للحياة في مبدئها و أصلها..." اعتمدت مرحليّة ذكيّة لتحقيق الغايات التي وقع ارتسامها.

ويقرّ بورقيبة أنه بالرغم من اختلاف السياقات، و تنوّع الاكراهات و الصعوبات   فإن تلك " الطريقة [ظلت] واحدة، و فصولها واحدة، من 1934 إلى معركة بنزرت عام 1961.." . 
سنعنى في هذا العمل برصد أهمّ ملامح التمشيّ المرحليّ البورقيبيّ في إقرار النظام الجمهوري في تونس خلال الفترة الواقعة بين 1956 و جويلية 1957 و هي فترة من الزمن فاصلة و واصلة. هي فاصلة باعتبار أنها دشّنت عهدا جديدا فارقا في تاريخ البلاد تميّز بوضع مداميك الدولة الوطنية الناشئة و إرساء مؤسسات السيادة و تحديث المجتمع، و لكنّها واصلة اعتبارا إلى أنها لم تشكّل سوى طور ضمن سيرورة تحريريّة و تحديثيّة بدأت فصولها مع اختمار الحركة الوطنيّة على عهد الحماية و اشتداد عودها، و تواصلت بعد الاستقلال السياسي للبلاد على هيئة إصلاحات عدّة. سيرورة وسمها الحضور الطاغي لبورقيبة بميسمه، و مرحلة جوّد فيها بورقيبة " البورقيبيّة" بإتقان باذخ.
و نودّ بادئ ذي بدء التنبيـه إلى أن دراستنــا هذه تتنزل ضمن مدارين اثنين هما: الحدث L’événement و إحياء الذكرى La commémoration. مداران يتضمن الواحد منهما الآخر و يحيل عليه. و لنا في هذا الصدد ملاحظتان:
أولا: سجّل منذ أزيد من عشريّتين اكتساح لافت لظاهرة أحياء الذكريات و التخليد و استحضار الذاكرة للحقل الجامعي و المنابر الثقافيّة المشهورة ( فضلا عن وسائل الإعلام واسعة الانتشار)، و تزامن ذلك مع شيوع مفاهيم جديدة نحو المسؤوليّة و واجب الذاكرة.« Le devoir de mémoire ».
و الواقــع أن هذا الشغف عكس نـــــوعا من التصادي مع حمّى أحياء الذكريــات التي انخرطت فيها الأمم و الشعوب – بشكل غير مسبوق- لاسيما منذ تهــــاوي جدار برلين عــام 1989. و راحت الشعـــوب تراجع فهارس تـــواريخها و تتصيّد المناسبات لتخلّد الأيـــام المجيدة و اللحظات الفـــارقة مثل أحداث الاستقلال، و الثـــورة، و تواريخ ولادة العظماء الأفذاذ أو وفاتهم الخ...
الكل يتذكّر و يسجّل و يحتفل. و عادت إلى الواجهة أدبيات قامت بالتبئير على حب الوطن و معنى فضيلة الانتماء إليه. و تنوعت تبعا لذلك أشكال الاحتفاليات و سلوكياتها الأمر الذي حدّا بالمؤرخ الفرنسيّ المعروف بيار نورا Pierre Nora  إلى القول: " إننا نعيش اليوم بلا أدنى ريب، عهد أحياء الذكرى بما أن كل شيء اغتدى، هذه الأيام ذريعة لإحياء الخمسينيات و المئويات و المئويات الثانية أو الثالثة الخ..." 
و يكاد الإجماع ينعقد اليوم على أن إحياء الذكرى يمنح الشعوب، في كلّ مرّة، قوّة دافعة، و طاقة ايجابيّة للاستمرار و مراكمة الإنجاز رغم جملة المحاذير و الانحرافات التي هي صميم ذلك الضرب من الممارسات و الاستعمالات...
و ممّا ينبغي تأكيده هنا هو أن الرغبة الطافحة في إحيـــاء الذكـــريـات و المناسبات قد جعلت المؤرخين و فلاسفة التاريخ يستأنفون النظر في قضيّة تصوّر المجتمعات للزمن و أنماطه، و يبرزون تعدّدية تلك الأنماط و علاقتها بعضها ببعض، و من ثمّ يراجعون مفهومي الذاكرة و الذكرى شبه المتضافرين و اللذين ظلاّ مرتبطين حتّى وقت قريب بنمط واحد من أنماط الزمن و هو الماضي.
و خلال هذه المراجعة المذكورة دأب هؤلاء على التذكير بإشارة هامّة لهايدغر Heidegger تقول: "انه في البدء لم يكن لفظ ذاكرة ليعني القدرة على استرجاع الماضي و إحياء الذكرى..."، إذ كان ذلك اللفظ يحيل " على النفس بكاملها كاستيعاب باطني دائم لكلّ ما يخاطب الإحساس بكامله. الذاكرة في أصلها هي الحضرة، بالقرب من... هي أن نظلّ مشدودين إلى... لا إلى الماضي و حده و إنما إلى الحاضر و كل ما سيأتي. إن ما مضى، و ماهو حاضر، و ما سيأتي كل هذا يلتقي في وحدة الحضرة التي تتخذ كل مرّة طابعا خاصّا."، و هذا مــا يغري على القول إنّ إحياء الذكرى ليس " حضورا للمـــاضي، و الأهم من ذلك ليس أحيـاء و امتـــلاء، و وصلا و اتصالا، و إنما هو كذلك، و ربّما أساسا غياب و ابتعاد و انفصال..." .
و قد لاحظ فرانسوا هارتوغ François Hartog   إن إحياء الذكرى بما هو طقس مطرد و عادة جارية، قد تزامن مع سياسة " الميراثيّة" أي تحويل مظاهر عديدة من المجال إلى التراث (Patrimoine) و خلص إلى أن تحوّل التاريخ إلى ميراث يدلّ في الواقع على إقبار رمزي لذلك الماضي..." . و في عبارة مختزلة: " لم تعد الذكرى فقط فرصة للاستحضار و ربط الصلة، و إنما كذلك، و ربّما أساسا مناسبة انفصال.إنها ليست مناسبة إحياء، فقد تكون أيضا و ربّما أساسا مناسبة دفن جديد..."
ثانيا: عودة الاهتمام بالحدث وردّ الاعتبار إليه في البحوث التاريخيّة   بعد كسوف طويل نسبيّا فرضته مدرسة الحوليات الفرنسيّة بأجيالها الثلاثة المعروفة.
و يذهب فرانسوا دوس François Dosse إلى أن نهضة الخطاب التاريخي (بعد تشظّي التاريخ) رهينة بانبعــــــاث الحدث، و أن ما سارت عليه مدرسة الحــــوليات طيلة أربع عشريات من غمط للحدث و تبخيس له، كاد يعصف بخصوصيّة علم التاريخ و وظيفته   ، ذلك أن التاريخ هو الاختصاص الوحيد القادر على التحكم في جدليّة نظام الحدث أي جدليّة الأمد البعيد و الأمد القصير و جدليّة البنية و الظرفيّة...
و كما هو معروف فان التاريخ يستمدّ مادته الأولية من الحوادث الماضية و ذلك خلافا للمقدمات اللازمنيّة التي تسبق المقاربات الانتروبولوجيّة أو السوسيولوجيّة...
على أن إعادة الاعتبار للحدث   لا تعني تجديد العهد مع المقاربات اللافيسيّة المعروفة (نسبة إلى ارنست لافيس Ernest Lavisse) المتشرنقة على التاريخ الوقائعي و التاريخ المعركة، بل يتعيّن معالجة الحدث ضمن قالب نظري و منهجي بما يمكّن من إبراز الحدث الدال المرتبط وثيق الارتباط بالبنية التي أنتجته. و هذا معناه أن الحدث من شانه أن يكشف عن البنية. فهو ينتج عن البنية و يؤثر فيها في نفس الوقت. و لسنا في حاجة إلى التذكير أن تاريخ الزمن الراهن و هو التاريخ الذي لا يزال البعض من فاعليه و شهوده على قيد الحياة يحيل على الحدث، و من ثمّ فان الاهتمام بالتاريخ القريب (إعلان الجمهوريّة في قضيّة الحال) هو بالنهاية عودة إلى الحدث بامتياز.
 

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

«رشاشك وكالة أنباء الثوار..إذا كذبت فيك وكالات الأنباء»  (مظفر النواب)
07:27 - 2024/05/22
الحديث عن الاعلام في تونس يجرنا حتما الى التساؤل حول تغييب الصحافة المكتوبة تقريبا في كل النقاشات
09:05 - 2024/05/20
يتحدّث التونسيون داخل تونس وخارجها بفخر واعتزاز كبيرين على تلك الطالبة التي آلت على نفسها تسلق حا
09:05 - 2024/05/20
تعتبر فترة ما بعد الثورة من أصعب الفترات التي تمرّ بها الشعوب نظرا الى سقوط النظام السياسي القديم
09:05 - 2024/05/20
المقاومون القدامي في ولاتيي مدنين وتطاوين يحتفلون هذا الأسبوع باستشهاد البطل مصباح الجربوع قائد م
09:05 - 2024/05/20
إن المراجعة السياسية بمجلس الأمن الدولي لإيقاف العدوان على قطاع غزة بقرار موضوعي بعد تعطل المفاوض
09:05 - 2024/05/20
في شهر أكتوبر: 2 أكتوبر تاريخ تحرير بيت المقدس أيام صلاح الدين الأيوبي.
16:12 - 2024/05/14
تعتبر مدينة المتلوي أوّل مدينة يصلها القطار ذلك أنّ السكّة الحديديّة مدّت إليها تحديدا يوم 19 أفر
09:29 - 2024/05/14