حوالي 600 قضية لكل قاض.. القضاء الإداري بين مفارقة الرغبة في "قضاء ناجز" وبين "تقشف مجحف" في توفير الإمكانيات والموارد

حوالي 600 قضية لكل قاض.. القضاء الإداري بين مفارقة الرغبة في "قضاء ناجز" وبين "تقشف مجحف" في توفير الإمكانيات والموارد

تاريخ النشر : 16:06 - 2020/07/07

يعد  القضاء الإداري  من الدعامات الأساسية لبناء الدولة الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات. وساهم  منذ نشأته سنة 1972 في إصدار قرارات جريئة في سنوات الجمر وزمن الدكتاتورية، كما ساهم منذ سنة 2011 في إرساء الانتقال الديمقراطي.

غير أن الواقع المعاش حاليا يكشف عن مفارقة بين الرغبة في قضاء ناجز يقابلها تقشف مجحف في توفير الإمكانيات والموارد سواء اللوجستية أو البشرية وحتى إرساء الترسانة القانونية، هذا ما أكده القاضي فيصل بوقرة لـ"الشروق أون لاين"

123654

ظروف المقرات المركزية والجهوية:

 تم احداث 12 دائرة جهوية، وبذلت المحكمة الإدارية مجهودا كبيرا في اختيار المقرات واقتنائها وتهيئتها وفي انتداب القضاة وتوفير الربط اللوجستي مع الدوائر المركزية.

ورغم مواصلة المحكمة حاليا العمل على تهيئة المقرات الجهوية بما يليق بالسلطة القضائية وبتوفير ظروف عمل طيبة للقضاة، إلا أن ذلك لا يزال يتطلب مزيد التعاون من الدولة بخصوص تلبية طلبات المحكمة وبعض الدوائر الجهوية، ومن أهمها مزيد تحسين المقرات المتوفرة حاليا، ومضاعفة احداث الدوائر الابتدائية واحداث محاكم ابتدائية ومحاكم استئنافية جهوية تماشيا مع متطلبات لامركزية القضاء الإداري التي فرضها دستور سنة 2014.

علاوة على ذلك، فإن تفعيل مقتضيات قانونية تعود إلى سنة 1996 لم يستتبعه مجهود على المستوى التشريعي لإضفاء مزيد النجاعة على الاختصاصين الحكمي والترابي كخطوة أولى لتكريس لامركزية حقيقية على معنى المقتضيات الدستورية، بما جعل احداث الدوائر الجهوية يدخل في إطار اللامحورية لا غير ولا يساهم بصفة فعلية في تكريس قضاء القرب علاوة على عدم وجود نص حالي يكرس معيار مقر المدعي كوسيلة فعالة في جلب القضايا من المركز إلى الجهات.

وربما يفسر تخلف القاطرة التشريعية ظهور تنازع الاختصاص بين الدوائر الجهوية والمركزية خاصة فيما يتعلق بقرارات توقيف التنفيذ.

أما بخصوص المقرات المركزية، والموزعة على مقر نهج روما (التعقيب والاستشاري)، مقر نهج الدباغين (سوق هراس سابقا، وهو مخصص للدوائر الابتدائية المركزية وعددها 15)، مقر مونبليزير (الدوائر الاستئنافية وبعض الدوائر الابتدائية)، فقد تم كذلك برمجة التوسع إلى مقرات مجاورة لها تم تخصيصها من الدولة ومن ذلك مقر دار العمل ومقر ساحة علي الزواوي، إضافة إلى حفظ حق المحكمة في قطعة أرض بجهة حي الخضراء.

ورغم أن المحكمة تبذل مجهودا لتهيئة مقراتها الحالية وضمها لبقية المقرات المجاورة لها فإن خيار إيجاد مقر حديث البناء وموحد وجامع قادر على إيواء جميع الدوائر يبقى مطروحا ومأمولا.

الوسائل اللوجستية ورقمنة القضاء:

قامت المحكمة ببعث لجنة داخلية تعنى برقمنة القضاء تضم أعوان وقضاة من المحكمة مع تولي شركة خاصة انشاء موقع واب خاص بالمحكمة، إلا أن استكمال الموقع واطلاقه للعموم وتمتيع المتقاضي من متابعة القضايا عن بعد وتمكين الباحثين والدارسين من الحصول على فقه قضاء المحكمة، يتطلب مزيدا من الوقت لتجاوز عديد الصعوبات التقنية والفنية، كما ساهمت أزمة كورونا في تأخير مواعيد إطلاق تلك المنظومة.

وفيما يتعلق بخدمة التقاضي عن بعد فقد تم تكريسها في مشروع مجلة القضاء الإداري على أن دخولها حيز النفاذ يتطلب التسريع في المصادقة على مشروع القانون.

بخصوص وحدة التواصل والإعلام المحدثة منذ شهر جوان 2016، فإن نقص موارد المحكمة يحول دون انتداب تقنيين ومختصين في الاعلام والاعلامية لمعاضدة مجهود قضاة المحكمة الإدارية وأعوانها أعضاء الوحدة المتطوعين لتأثيث الصفحة الرسمية للمحكمة وإدارتها بالتوازي مع أعمالهم العادية.

التنظيم الإداري والمالي:

لئن كانت المحكمة الإدارية تتمتع بالاستقلالية المالية مع نظيرتها دائرة المحاسبات، وذلك بموجب الفصل 59 من دستور سنة 1959 المحدث لمجلس الدولة، فإن إلغاء هذا الأخير بمقتضى دستور سنة 2014 جعل إطارها التشريعي يتقهقر.

ومع صدور القانون الأساسي للميزانية سنة 2019 نصّ الفصل 19 منه على أن &تعتبر مهمات خاصة كل من (...) الهياكل القضائية العدلية والإدارية والمالية التي تنص قوانينها الأساسية على الاستقلالية الإدارية والمالية&، غير أن القانون الحالي للمحكمة لا يتضمّن ذلك التّنصيص، في حين تمكّنت دائرة المحاسبات من إصدار قانونها الأساسي سنة 2019 الذي واصل كرّس تلك الاستقلالية التي يتمتّع بها سابقا.

علاوة على غياب المجهود التشريعي، تم اسقاط مقترح قانون احداث صندوق دعم جودة العدالة والذي كان من المنتظر أن يخفف العبء عن الدولة في تحسين جودة الخدمات والارتقاء بالسلطة القضائية.

ظروف عمل القضاة:

تضم المحكمة الإدارية حاليا قرابة 220 قاضية وقاض، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، يتعهد القاضي المقرر لدى الابتدائي بما يتراوح بين 500 و700 ملف وحتى أكثر (معدل 600) وفي الاستئناف بين 40 و100 (معدل 70) وفي التعقيب بين 400 و600 ملف قضائي.

ويشكّل عدد القضاة بالابتدائي أغلب قضاة المحكمة، ويتمثّل عمل القاضي الإداري الابتدائي وخاصة القاضي المقرر في القيام بصفة يوميّة بإجراءات التحقيق في الملفات وتجهيزها بما يتطلبه ذلك من اتصال بالخبراء وإعداد مأموريات اختبار وكتابة المراسلات وإجراء المعاينات الميدانية والتحرير المكتبي على الأطراف ومقابلات مع المتقاضين.

ويكون مطالبا شهريا بتلخيص العرائض والردود وختم التحقيق واقتراح مشروع حكم في عشرات الملفات المختلفة حجما ومضمونا وطبيعة من نزاعات الوظيفة العمومية إلى نزاعات التهيئة العمرانية مرورا بالصفقات العمومية وبالطعون الخاصة وبشتى أنواع القضايا الإدارية من مسؤولية إدارية وتجاوز سلطة ... والإجابة عن كل عريضة مطعنا مطعنا، ثم حضور جلسة المرافعة بصفته قاضيا مقررا، والتفاوض في جلسات مكتبية متتالية ثم تحرير الحكم على ضوء تلك المفاوضة.

بالتوازي مع ذلك، يكون مطالبا شهريا بحضور جلسة المرافعة بصفته قاضيا عضو الهيئة الحكمية بدائرة أخرى، وقراءة ملفات الجلسة التي تعد بالعشرات وتختلف عن بعضها جميعا، والتفاوض في جلسات مكتبية متتالية مع بقية أعضاء الهيئة الحكمية التي تضم رئيس الدائرة بخصوص كل ملف مطعنا تلو الآخر، ويكون مطالبا بالخروج بموقف بخصوص كل ملف على حده ومن كل مطعن على حده، ثم مراجعة مشروع الحكم المحرر من القاضي المقرر على ضوء تلك المفاوضة.

هذا الكم الهائل من الأعمال القضائية يقابله &تأخر لوجستي& في توفر المعلومة القضائية لدى القاضي الذي عليه البحث في فقه قضاء المحكمة والقانون المقارن لاستنباط الحلول والاجتهاد في فك شيفرات النزاعات، علاوة على أن تلخيص التقارير والعرائض يأخذ جهدا ووقتا من القاضي، الأمر الذي جعل المحكمة تطالب في النزاع الانتخابي بإيداع نسخة رقمية الكترونية من العرائض والردود، وتسعى حاليا للاتفاق مع المكلف العام بنزاعات الدولة على ايداع نسخة رقمية من تقاريره، على أمل تعميم الإجراء، ولما لا التفكير في انتداب &مساعدي القضاء& الذين يتولون الأعمال المكتبية من كتابة مراسلات التحقيق وتلخيص العرائض والردود مثلما هو معمول به في القضاء الإداري الفرنسي، حتى يتفرغ القاضي لمهمة البت في النزاع واقتراح الحلول القانونية، دون أن يضني جهده في تلخيص عرائض يفوق بعضها العشرات من الصفحات وحتى في بعض الأحيان تكون مكتوبة بخط اليد وعسير قراءتها.

كل هذا ربما يفسر، وإن كان لا يبرّر، البطء والتأخير في البت في القضايا وتحرير الأحكام، ويكمن الحل الأمثل في الانتداب الدوري لعدد كاف من القضاة وكذلك استشارة المحكمة بصفة دورية بخصوص مشاريع القوانين المتضمنة لطعون خاصة مع التسريع في دعم تمرير مجلة القضاء الإداري.

المسار المهني للقضاة:

ينتدب القاضي الإداري ويقضي تربص لمدة عامين يرسم إثره بصفة مستشار مساعد، وبعد قضاء 6 سنوات بما في ذلك فترة التربص، يرسم بصفة مستشار ليستكمل بذلك مساره المهني على مستوى الرتبة.

طيلة مساره المهني، ينتظر القاضي الإداري الانتقال من درجة تقاضي إلى أخرى ومن خطة قضائية إلى أخرى.

غير أنه يذكر أن المسار المهني للقضاة الإداريين يعد غير محفز بالمرة، إذ قد يقضي البعض أكثر من 15 سنة بصفته قاضيا مقررا قبل أن تسند له خطة قضائية، وقد ينتظر عدة سنوات للانتقال من الابتدائي إلى الاستئناف ومنه إلى التعقيب بما يهدد بإدخاله في &روتين& قاتل.

علاوة على ذلك، لا توجد تحفيزات حقيقية إثر المرور من خطة قضائية إلى أخرى علاوة على نقص في الخطط القضائية واقتصارها على مندوب الدولة ومندوب الدولة العام، ورئاسة الدوائر القضائية والدوائر والأقسام الاستشارية، وغياب ترفيع حقيقي في التحفيزات المالية والعينية إثر المرور من خطة إلى أخرى موالية.

ينضاف إلى ذلك غياب شبه كلي للتربصات في الخارج والتي تضطر المحكمة لإبرام اتفاقات مع منظمات وجمعيات أجنبية وكذلك الانخراط في اتفاقيات توأمة لتكريس انفتاح القاضي على محيطه الخارجي.

ومثل هذه الاتفاقات تتكفل حاليا بتغطية النسبة الأكبر من حاجيات المحكمة في تأمين التكوين المستمر ودورات التدريب والتكوين لقضاتها وأعوانها قصد مساعدتهم على الاستلهام من التجارب الوطنية والأجنبية.

هذا ربما يفسر وجود حالات استقالة بين القضاة وكذلك حالات الحاق وحتى الادماج والتعاون الفني بالخارج، الأمر الذي يتعين معه دعم المحكمة في احداث الخطط القضائية وبرمجة التحفيزات وتكثيف الدورات التدريبية والتكوينية لوقف نزيف هجرة القضاة والمحافظة على المخزون البشري.

ومن جهة أخرى ولئن تمكنت المحكمة من توفير سيارات إدارية للدوائر الجهوية إلا أنه في المركز لا زالت بعض الخطط لا تخول التمتع بذلك ومنها خطة مندوب دولة ورؤساء الدوائر الابتدائية المركزية وذلك خلافا لما هو معمول به بالأقضية الأخرى وبالخطط المعادلة بالوظيفة العمومية.

وعليه وجب التسريع في تمرير مجلة القضاء الإداري ووضع نظام أساسي خاص بالقضاة يراعي حساسية سلكهم وأهميته.

غياب الحماية الأمنية للقضاة:

يكون القاضي الإداري مطالبا أثناء التحقيق في القضايا بإجراء معاينات ميدانية، ورغم قيامه بذلك بالسيارة الإدارية صحبة مرافق من أعوان المحكمة وزميل أو أكثر، إلاّ أنه قد يحدث أن يتعرض إلى الخطر والتهديد لغياب &أمن قضائي& كما هو معمول به في بعض الأنظمة المقارنة، ويظهر ذلك جليا خاصة أثناء تأمين جلسات المرافعة في قضايا حارقة.

الظروف الاجتماعية والمادية للقاضي:

رغم الدور الاقتصادي للقضاء (أراضي دولية، مصادرة، صفقات عمومية، جباية، منافسة ....) فإن الدولة تقابل ذلك بتنكر للقاضي في تمتيعه ببعض التحفيزات خاصة في المجال الاجتماعي.

ومن الملاحظ أن الزيادات في الأجور التي تمتع بها القضاة سابقا تعد زهيدة جدا وتكاد تكون رمزية في بعض الحالات إذ تتراوح بين 20 و30 دينار باستثناء زيادات تكفل بها الاتحاد الأوروبي في إطار دعم العدالة في تونس.

وفي غياب سلم تأجير مستقل للقضاة فإن تأجير القاضي التونسي يبقى حاليا في تضارب تام مع المعايير الدولية لتأجير القضاة.

وعلى سبيل المثال يقوم القاضي الإداري بالمعاينات الميدانية مجانا خلافا لبقية الأقضية المشابهة، كما لا يتحصل على منحة خاصة تتعلق بالأعباء الإضافية في إطار البت في الطعون الخاصة ومنها النزاعات الانتخابية التي يؤدي البت فيها في معظم الحالات وبالنظر إلى ضيق الآجال إلى التداول على دائرتين للتفاوض في ساعات متأخرة من الليل وتلخيص العرائض وتحرير الأحكام وحضور جلسات المرافعة في آجال ضيقة وعلى حساب القضايا العادية الأخرى.

إن القاضي يدفع مساهمة كبيرة وآلية شهريا لفائدة تعاونية القضاة في حين لا يتلق خدمات حقيقية في مقابل ذلك، إضافة إلى غياب برامج إحداث مساكن قضاة وأراضي، مع غياب تحفيزات مالية واعفاءات جبائية، وضبابية الإطار القانوني للسيارة الشعبية، وغياب دعم صحي حقيقي، واستثناءه من التمتع بالعلاج بالمستشفى العسكري ...

وفي جانب آخر ليس من الغريب أن يجد القاضي نفسه أحيانا يقف في طابور لاستخراج وثيقة في غياب نقطة اتصال خاصة بالقضاة إذ على سبيل المثال للحصول على تأشيرات السفر "العادية" (سياحة، عمرة، ...) فإن غياب اتفاقيات تعاون مع السفارات قد يدفع القاضي إلى المكابدة أحيانا للحصول على تأشيرة ويستخرج عديد الوثائق الثبوتية ليتحصل في الأخير على إذن بالسفر لعدة أيام فقط.

وربما هذه الإحاطة الاجتماعية بالقاضي لحفظ كرامته وهيبة السلك والسلطة التي يمثلها تتطلب تظافر وتكافل مجهود الدولة مع الهياكل الممثلة للقضاة من مجالس وجمعيات ونقابات ووداديات وتعاونيات.

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

نفت وزارة التعليم العالي و البحث العلمي اليوم الخميس أي صلة لها أو علاقة لجامعة منوبة و كلية الآد
22:23 - 2024/04/25
نشرت وزارة النقل اليوم الخميس25 افريل 2024 فيديو يوثق عمليات صيانة عربات المترو والحافلات بمختلف
21:03 - 2024/04/25
شرعت وزارة الداخلية في استغلال مقر جديد للأرشيف تمت تهيئته بتجهيزات متطورة وتكنولوجيات حديثة، وذل
19:50 - 2024/04/25
قال المعهد الوطني للرصد الجوي في بلاغ له مساء اليوم ان طقس الليلة سيكون مغيما جزئيا بأغلب المناطق
19:11 - 2024/04/25
ينتظم يوم الأحد 28 أفريل 2024 الملتقى الوطني للموسيقى بالمدارس الاعدادية والمعاهد الاعدادية تحت ا
18:40 - 2024/04/25
صادق مكتب مجلس نواب الشعب، خلال اجتماعه اليوم الخميس بقصر باردو، بإشراف رئيس البرلمان إبراهيم بود
18:28 - 2024/04/25
انتظمت اليوم الخميس بتونس ندوة علمية حول "التعاون العربي في مجال البحث العلمي"، بمشاركة باحثين من
16:22 - 2024/04/25