مسلسل نوبة لعبد الحميد بوشناق: لعبة الممثل وصناعة الحكاية

مسلسل نوبة لعبد الحميد بوشناق: لعبة الممثل وصناعة الحكاية

تاريخ النشر : 10:01 - 2019/05/26

أنا في الحقيقة لست ناقدا سينمائيا ولست مختصّا في دراسة الاعمال الدراميّة. كلّ ما أعرفه هو أن أثرثر قليلا حول عمل فنيّ ما أعجبني وشدّ انتباهي وذلك فقط  من أجل المتعة. متعة الحكي حول الحكاية...وأيضا من أجل هذا السيّد العظيم، الذي يُسمى بالفن ويحسّه الناس وهو يحلّق كروح حرّ خفيف  فوق أرواحهم وبأرواحهم...ولهذا أردت أن أثرثر قليلا حول مسلسل النوبة التونسي وأرسم ببعض الكلمات شعوري أو انطباعي من عمل دراميّ شدّني وأعجبني وأسرتني حركته المشوّقة...
الصورة والاطار:
شدّ انتباهي في النوبة ذلك التقطيع البارع للمشاهد، فبدت وكأنّها مجموعة من اللوحات الجميلة المعلّقة في معرض. لا يحسّ المتفرّج بثقل مشهد على حساب آخر ولا يحسّ ـ وهو الأهم ـ بانتقال مباغت مبتور من حكاية الى أخرى. هناك نوع من التناغم والتراوح بين الاحداث الدرامية التي تقود الحكاية بأكملها. ساهم في ذلك طبعا الاداء البارع للممثلين في المقام الاول، كما أثّثت له التقنية من ضوء وموسيقى وديكور وصورة جميلة حققتها حركة الكاميرا ولعبتها البارعة. كل مشهد هو لوحة ذات إطار وكلّ اطار هو ديكور وممثّل وحكاية مشوّقة ليست بالطويلة وليست بالقصيرة. حكاية تشبع نهم المشاهد ولا تتخمه وتشحذ رغبته في متابعة المشهد الموالي وكلّ ذلك داخل هذا الاطار، الذي تسبح فيه الاشياء بدعة وجمال وحبور.
في بعض الاعمال الدرامية، التي سبق وأن رأيتها سواء في تونس أو خارجها تحدث بعض الاخطاء داخل الاطار ومن هذه الاخطاء ما يبعث على الدهشة وحتى على الضحك، فمرّة رأيت مشهدا من فيلم تاريخي يعود الى عصر الدولة الفاطمية، حيث امتطى الممثّل حصانا ولوّح بسيفه في خطبة عصماء ولكن للاسف مرّت فوق مياه النهر، الذي يقف على ضفّته قارورة بلاستيكية قادمة من المستقبل البعيد للتلوّث البيئي وبالتالي حطمت كلّ شيء ولم ينتبه اليها أحد...هذا ما اقصده بحرفيّة الاطار وتناغمه مع الحدث والمشهد والتاريخ في أدقّ تفاصيله، الذي نجح فيه مسلسل النوبة.
غاب النشاز كليّا بين النص والممثّل الذي يؤديه بملامحه وحركة جسده والموسيقى المتابعة لذلك. ففي أعمال أخرى كثيرا ما نلحظ إمّا مبالغة في الاداء أو برودة في الحبكة أو حتى تنافرا بين حركة الكاميرا والديكور وتموضع الممثّل. في النوبة سارت الامور كما يجب لها أن تسير...تناغم كليّ بين جميع هذه العناصر وصل حتى الابداع بشهادة الكثير من المتابعين. وهي نفسها تلك العناصر، التي تجعلنا نحسّ بالمتعة عند تذوّقنا لعمل فنيّ ما، خاصة اذا كان عملا دراميّا، فيأسرنا الممثل ويدهشنا الديكور ويشوّقنا الحدث.
 لعبة الممثّل وتطوّر الشخصية
بلال بريكي{ماهر} أميرة الشبلي {حبيبة} شاذلي العرفاوي {برينقا} هالة عيّاد {وسيلة} عزيز الجبالي {وجدي} مروان العريان {اسماعيل} ياسمين ديماسي {فرح}....والقائمة تطول...كلّ هؤلاء، هم أبطال النوبة  ويصعب تفضيل أحدهم على الآخر...أداء بارع وحرفية عالية في حركة الجسد وتناغم الملامح مع الصوت ومتن الحكاية. بطل آخر حاضر بقوّة وهو المكان {المدينة العربي}. هذه المدينة، التي تنحت وجودها وتؤسس له من خلال نوبتها. مدينة أبوابها ونوافذها تعبق برائحة البخور وتهتزّ حيطانها وسطوحها على أنغام الموسيقى الشعبية. كل شخص له حكاية، له مشموم وله زُنّار وله نوبته الخاصة. كلّ تفصيل مشحون بحكاية ومشحون بلحن خاص به وتجمع الشخصية كلّ هاته التفاصيل لتلتقي وتتقاطع مع الشخصيات الاخرى في خط دراميّ متنامي محبوك الصنعة ومشوّق أشد التشويق.
وأتناول هنا على سبيل الذكر لا الحصر، فكما سبق وأن ذكرت، كل الشخوص في هذا العمل هي شخوص بطلة ويصعب تفضيل واحدة على أخرى من ناحية الأداء والحرفية والاقناع. أتناول شخصية {برينقا} للممثّل المُذهل شاذلي العرفاوي. اضافة للحضور الجسدي، الذي يملأ الفضاء والذي هو أداة العمل الاساسية في بعض الادوار الدرامية، فشخصية برينقا شخصية متطوّرة مفعمة بالحياة. ليست ذلك البطل الثابت على مبادىء الخير دائما وليست ذلك البطل الثابت على مبادىء الشر. ليست القوي دائما وليست الضعيف المهزوم دائما. في هذه الشخصية هناك تجاوز لهذه الثنائية الكلاسيكية. هي فعلا شخصية إشكالية يمتزج فيها الابيض بالاسود وتختلط فيها الالوان، كما يحدث في الطبيعة والحياة. هناك خط درامي ينطلق الى القمة، ثمّ ينكسر وينحني، عبّر عنه العرفاوي جسديا ونفسيا ببراعة وأدّاه كممثّل محترف، عرف كيف يقتحم عين المشاهد ويستقرّ في ذاكرته، رغم المنافسة الشديدة للشخصيات الاخرى وللفعل الدرامي المشحون، الذي تضطلع به في أدائها المبهر.
لعبة الممثّل لا تكمن فقط في أدائه لدوره. إنّها لعبة تمتدّ أصابعها لتمسك بجميع خيوط الحكاية وقدرته على التحكّم في هذه الخيوط. هناك وقفة ما أمام الكاميرا. هناك نظرة ما. هناك تقطيبة جبين او ابتسامة. هناك لحظة لا يمكن وصفها، يلتقطها الممثّل البارع، كما يلتقط البحّار الماهر قدوم العاصفة من خفيف الهواء ويعبّر عنها في الوقت المناسب، ليعصف بمشاهديه.
في النهاية، أنا ممتن لكلّ الفريق، الذي أنجز لنا هذا العمل المبدع. أشكره وأشكر من خلاله تونس الولاّدة رغم كلّ الصعوبات.

تعليقات الفيسبوك

في نفس السياق

قياسنا هنا 7 أكتوبر وطوفان الأقصى واليوم الماءتان.
23:48 - 2024/04/23
تعقيبا وتعليقا على الهجوم الإيراني المتوقع على إسرائيل كردة فعل على الهجوم الصهيوني الذي أودى باس
07:00 - 2024/04/22
تزامن عيد الفطر هذه السنة في غزة مع دخول طوفان الأقصى شهره السابع وما خلّفه العدوان الصهيوني من د
07:00 - 2024/04/22
تصاعدت منذ انطلاق طوفان الأقصى وتيرة مواجهة الكيان الصهيوني من خارج فلسطين وأصبحت ظاهرة بارزة بصد
07:00 - 2024/04/21
لم يكن قصف القنصلية الايرانية في دمشق عملا عبثيا وانما عملا مخطط له هدفه خلط الاوراق اقليميا ودول
07:00 - 2024/04/21
-إذا كان الوعي من أعمال العقل،وإذا كان العقل يغلب عليه التشاؤم أحيانا،وهو يحلّل ويستقرئ ببرود وحي
09:16 - 2024/04/15
مرّت ذكرى يوم الطفل الفلسطيني الموافق للخامس من شهر افريل هذه السنة في ظروف صعبة لواقع الطفل الفل
09:16 - 2024/04/15